كلمات في مهبّ الريح النكباء

(المثقف هو الشاهد على المجتمعات الممزقة التي تنتجه، لأنه يستبطن تمزقها بالذات. وهو بالتالي ناتج تاريخي.. وبهذا المعنى لا يسع أيّ مجتمع أن يتذمّر ويتشكى من مثقفيه من دون أن يضع نفسه في قفص الاتهام، لأن مثقفي هذا المجتمع ماهم إلا من صنعه ونتاجه…).

«سارتر»

بعد ستّين سنة أذكرُ أنّ لي عمراً قد ذابَ كما يذوبُ العاشق المدنف في حضرة (عشتار)، وأنّ لي روحاً قد شَرَدَتْ في فضاءاتٍ لا تحدّ ولا تُطال…، بل قد تكون فضاءات وهمية مستحيلة لا وجود لها مثل الغول والعنقاء..

وأذكرُ أنّ لي حياة قد أفنيتُها في (الانتظار) و(الأحلام) و(الأوهام)…

أفنيتُها في (الوجود والعدم) و(تهافت التهافت) و(رأس المال) وفي (ما العمل)..؟

 أفنيتُها وأنا أتلمسّ خطا (الأمير) وأبي عبد الله وأبي ذَرّ الغِفارِيّ ولينين وجيفارا… أفنيتُها في الاقتصاد السياسي وحركات التحرر العربية والعالمية وفي الأرض المُقّدَّسّة… أفنيتُها في (الحلاج) والحلولية ومحيي الدين بن عربي ورابعة العدوية، وفي القرآن والأناجِيل والتوراة والتلْمُود… أذكرُ أنّ لي عمراً أفنيتهُ وأنا أَلْهَجُ بالشعر العالي، وبالظباء الغيد والسلافة العلوية والأرضية، وبإيقاعات سيّد درويش والسنباطي وعبد الوهاب والشيخ إمام ومارسيل خليفة وفيروز وموتسارت وشوبان… وأنّ هذا العمر الشقيّ أفنيتهُ في التغريد خارج السرب والوقوف في وجه التيار.. وفي التوضؤ بالمحبة والوداد والحزن الإنساني النبيل…

 وبعد ستّين سنة أذكرُ أنّي كنتُ، وما زلتُ، جائعاً، عارياً كما الأشجار في أوج خريفها… أجري لاهثاً، ملهوفاً، محزوناً وملوّعاً.. أجري بائساً (هاملتياً) قلقاً، خائفاً وغريباً… من مكان رماديّ إلى مكان أكثر رمادية.. ومن حلمٍ إلى صنمٍ.. ومن كتابٍ إلى قبوٍ.. ومن صديقٍ إلى قاعٍ..

 أمضي من امرأة إلى انشطار روح واحتراق.. من عنب وتفاح إلى شجن.. من هاجس قلم وحرف إلى اشتعال صدر وانفجار رأس… وأذهبُ في الأرض من صحب إلى عدم.. من أهل إلى اغتراب.. ومن أمل إلى انكسار.. ومن قصيدة حبّ إلى جنازة.. ومن (سكن) إلى عداء… أسيلُ مع لفافة تبغي.. ولهفة دمعي.. وتفطّر قلبي.. أسيلُ مع وطني.. وجمر حنيني.. وأتلاشى في ملكوت الريح…

 ماعدتُ أقوى على الكلام، ولا على هذه العتمة الحالكة.. فبعد ستّين سنة سوف أخرج من عالم الأحياء / الأموات صفر اليدين والقدمين.. لا أذكر إلا الفراغ والحطام والانكسار والوحدة والنسوة (العرجاوات)… لا أذكر إلا القهر الاجتماعي المفتوح على كل الأناع والحالات.. إلا المُخاتلة والجحود وأنا الذي تَعوَّدتُ بَسْطَ كفّي حتى لو أني طويته لِقَبْضٍ لم تُطِعْني أناملي، لا أذكر إلا الاستغلال بكل أشكاله بدءاً بالاستغلال الأسروي وانتهاء بالاستغلال النظاموي… وبعد ستّين سنة سوف أغادر هذه الدنيا والاستبداد السياسي، الثقافي، الاقتصادي، النفسي والعاطفي.. يلاحقني… والانتهازية، الانفصامية، الازدواجية، والانهيارات الأخلاقية، القيمية، الروحية… تطاردني… وهذه العلاقات البشرية / المجتمعية المتردية، المشوّهة، المتفسخة.. تحرق عمري… وهذا الفساد السرطاني المتعدد الألوان يمزق روحي، ويقطع عليّ أنفاسي…

 وها أنذا.. بعد كل ما كتبتُ، وبعد تلك السنوات العجاف.. سوف أغادر هذه الدنيا و(جسّاس) و(أبو رغال) والسيّاف والغرباء والإرهاب بكل أصنافه.. يغطون الزمان والمكان.. أغادرها.. ودمي مستباح.. وذكرياتي وأحلامي وأيامي قيد الاعتقال.. أغادرها.. وكل شيء في حياتي أضحى يسير على خطا الجَبْرِيَّة… أغادرها.. وبيتي / وطني بلا سقف، وبلا جدران، وبلا أبواب.. بلا أهل وأطفال وأحباء وأصدقاء.. بلا كتب وموسيقا…

أغادر هذه الدنيا.. لا أذكر منها إلا الريح النكباء.. إلا العراء، ثم العراء، ثم العراء… وأشياء أخرى لا تريد أن ترى النور المبين الذي غدا تحت حوافر الطغاة والقتلة، القدامى والمحدثين، ظلاماً مُدْلَهِمّاً…

وسوى الرومِ خلفَ ظهركَ رومٌ

فعلى أي جانبيك تميلُ

وبعد ستين سنة أذكر أن دولة لقيطة تدعى (إسرائيل) تأسّست على أرض فلسطين العربية عام(1948)، وأن الغرب الإمبريالي بأسره، والحركة الصهيونية العالمية، والرجعية العربية التابعة والعميلة، والتخلف السياسي والحضاري.. كانت كلها عناصر نسج خيوط المؤامرة مجتمعة، وهي التي نفذت جريمة النكبة الفاجعة منذ أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين إلى يومنا هذا (..؟).

وأذكر أن مشروع (بن غوريون) الاستعماري الاستيطاني (الكولينيالي) ينهض على مبدأ:

 (إنّ تدمير فلسطين شرط لقيام إسرائيل)، وأن الحركة الصهيونية سعت، وتسعى بكل الوسائل والسبل، إلى صياغة تاريخ وجغرافية جديدين خاصين بفلسطين، وعملية (التطهير العرقي) المتجذرة في الفكر الصهيوني حرتْ وتجري ضمن هذا الإطار.

 وأذكر، فيما أذكر، أنّ هذا الكيان الصهيوني يقف فوق القانون والمجتمع الدوليين، وفوق الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، وشرعة الأمم المتحدة، وفوق الحق والعدالة.. ويقع خارج دائرة المعايير الإنسانية والأخلاقية والقانونية والحقوقية..(؟!)

 وأنّ بعض، أو معظم النظام الرسمي العربي يحاصر قوى المقاومة والمعارضة والمواجهة، دولاً وأحزاباً وحركات، ويعمل بشراسة على إسقاطها بكل الوسائل المادية والمعنوية (…) و(يحلم) وأسياده، بتحويل شعب فلسطين وأرضها إلى هنود حمر على الطريقة الأمريكية ؛ الطريقة التي هي مثال (يحتذى) في القتل البربري يشار إليه، وأنموذج تاريخي في الإبادة الوحشية الجاعية.. والبناء والعيش على أنقاض البشر والحجر والأخضر، وجميع المفردات الإنسانية لسكان الأرض الأصليين وأصحابها الحقيقيين…(…).

 وأذكر، وأنا مُتْعَبٌ حتى العياء : بعد أكثر من سبعة وتسعين عاماً من (إعلان بلفور)، وبعد سبعة وستين عاماً من قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين العربية مازال الغرب الإمبريالي والصهيونية العالمية والرجعية العربية والتابعون وكل الذين يعشقون رائحة الورق الأخضر الأمريكي ويطربون لها.. لا يزالون يشكلون رأس حربة القتل والتدمير وتفتيت المفتت وتجزئة المجزّأ.. وأذكر بعد سبعة وستين عاماً وملحمة فلسطين الحمراء مابرحت فصولها التراجيدية تتوالى.. أن الندب السياسي والوجداني ما زال جارياً.. والنكبة مابرحت مستمرة.. ودماؤنا شارة وعلامة..؟

العدد 1105 - 01/5/2024