مكسيم غوركي مؤسس الواقعية الاشتراكية (1868-1936)

ولد مكسيم غوركي في 28 آذار سنة 1868 في قرية (نيجني نوفنجورد) التي أصبح اسمها فيما بعد (غوركي). ومعنى اسم غوركي بالروسية (المر)، أما اسمه الحقيقي فهو أليكسي مكسيموفيتش بشكوف.

توفي والده  الذي كان يعمل نجاراً  وهو صغير، فلجأ إلى جَده لأبيه الذي كان هو الآخر نجاراً أيضاً، أما جدّه لأمه فكان يملك دكاناً لكيّ الثياب، وبعد أن كفل الجد الطفل، فرّت أمّه وتركتْه وحيداً، ثم ما لبثت أن ماتت.

اضطر الطفل لأن يخرج إلى ميدان العمل، وهو في الثانية عشرة من عمره، فعمل إسكافاً لإصلاح الأحذية، ومساعد طباخ على باخرة نهرية، ومساعد مصور ضوئي، وتلميذاً لرسام أيقونات، وعامل بناء، وبائع مشروبات متجولاً، وأجير بستاني، ومساعد عامل مساحة، وغير ذلك من المهن الوضيعة.. إلى أن استقر بعض الوقت عاملاً في مصنع للبسكويت، وهناك عرف طعماً جديداً للحياة، وقد خلد تلك التجربة بصدق فيما بعد في روايته (ستة وعشرون رجلاً وفتاة) التي نشرها عام 1899.

كان يعمل ليل نهار، وقلما كان يحظى بعطلة حتى أيام الأعياد، وفي أثناء ذلك، كان يواظب على القراءة، ولا يكف عن التهام الكتب والصحف والمجلات بكل وسيلة، وعلى حساب عمله، مما أتاح له الظفر أخيراً بوظيفة كاتب محام. ولما بلغ السابعة عشرة من عمره حاول دخول جامعة قازان، لكنه قاسى كثيراً في سبيل إعالة نفسه، وانتهت حياته هناك إلى حب عاصف، ثم محاولة الانتحار بالمسدس عام ،1888 واستقرت الرصاصة في رئته، وتركت له ذكرى لا تمحى.

بعد هذه الحادثة تجول غوركي في أنحاء روسيا، وتنقل من عمل شاق إلى آخر، وخاض تجارب عنيفة، ولما طابت له الحياة، أخذ ينشر القصص القصيرة، واستطاع عام 1892 أن ينشر أول قصة له بعنوان (ماكار تشودرا)، وصمّم على أن يشق طريقه في عالم الأدب، ليصوّر من خلاله البيئات المسحوقة، والمضطهدين المتمردين الذين يصارعون ظروفهم في مواجهة الاستغلال الذي كان سائداً في روسيا حينذاك.

في السابع من أيار عام 1898 ألقي القبض على مكسيم غروكي في قريته، وأرسل إلى قلعة (ميتينج)، بناء على طلب الشرطة السرية في تبليسي، لاتصاله بأعضاء المنظمة الاشتراكية فيها، ثم أفرج عنه، ووضع تحت المراقبة في محل إقامته.

ساهم في تحرير مجلة (جيزن) أي الحياة، حيث نشر قصص وروايات: (كيربلكا) و(فسوما غوردييف)، و(ستة وعشرون  رجلاً وفتاة)، وأسس دار نشر (زناني) التي قامت بنشر جميع مؤلفاته الصادرة حتى ذلك الحين، وفي 13 كانون الثاني عام 1900 التقي بالأديب الروسي العظيم ليو تولستوي لأول مرة في موسكو.

في 25 شباط عام 1902 انتخب عضواً في أكاديمية العلوم (فرع الأدب واللغة الروسية)، لكن القيصر نقولا الثاني أبطل الانتخاب، وفي عام 1906 قام بدور فعال في الحركة الثورية، ثم زار سويسرا، وفرنسا وأمريكا، والتقى الكابتن هربرت جورج ويلز ومارك توين، ثم قصد جزيرة (كابري) وبقي فيها حتى سنة 1911.

في عام 1913 عاد إلى الوطن وبدأ بكتابة الجزء الأول من سيرته الذاتية بعنوان (الطفولة)، ثم أتبعه بعد سنتين بالجزء الثاني بعنوان (أيام الدراسة)، ولم يصدر الجزء الثالث من مذكراته وهو بعنوان جامعاتي حتى عام 1923.

في عام 1928 عاد إلى روسيا بعد غياب دام ست سنوات، حيث احتفل بالذكرى الستين لمولده، وكان للاحتفال بهذه الذكرى صدى واسع في طول البلاد وعرضها.

في عام 1934 توفي ابنه مكسيم عن سبعة وثلاثين عاماً، وافتتح المؤتمر الأول للكتاب الروس حيث قدم تقريراً عن حالة الأدب في البلاد في ظل الحكم الاشتراكي، وفي 18 حزيران اشتد عليه المرض وفي الساعة 30,11 صباحاً أسلم الروح، ونقل جثمانه إلى موسكو، إذ عرض في بيت الأعمدة، وفي العشرين من حزيران عام 1936 شُيِّعت جنازته من الميدان الأحمر، واشترك عدد من أعضاء الحكومة في تأبينه، ووضع رماد جثمانه في جدار قصر الكرملين.

بدأت الواقعية المتطلعة إلى الغد، تطرد الواقعية الطبيعية الفجة الكالحة التي سيطرت على إنتاجه المبكر، وفي سنة 1906 فرغ من تأليف رواية (الأم)، فكانت علامة تحوله النهائي، وفي السنة نفسها قصد أمريكا لجمع التبرعات للثورة، ثم قضى فترة في جزيرة (كابري)، وبعد عودته إلى البلاد أنشأ مدرسة ثورية كان ستالين أحد تلامذتها، وحين قامت ثورة أكتوبر سنة 1917 تردد في الانضمام إليها بادئ الأمر، ثم أعلن تأييده لها، وفي سنة 1921 غادر روسيا على أثر خلاف مع (لينين) وعاش في ألمانيا حتى استدعي إلى بلاده عام 1928.

لقد عرف غوركي المذهب الاشتراكي منذ مطلع شبابه، واعتنق هذا المذهب لأنه رأى بعينيه، واختير بأسلوب عيشه في الفقر والتشرد أكثر مما كان يرى ويختبر غيره، فكان للاشتراكية الوقع العميق في نفسه، وهذا الوقع هو الذي نقله من الرومانسية إلى الواقعية.

لقد اكتسب الواقعية مما رأى واختبر، فصار ينقل لنا في أدبه صوراً من الفقر والحرمان، وما يجران على الفقير والمحروم من الانهيار النفسي والتفكك الأخلاقي في بعض الأحيان، كما يبعثان في أحيان أخرى قوة جديدة للتغلب والسيطرة على الوسط.

عاش أربعين عاماً وهو يكافح في صدره مرض السل، وأمضى شطراً من حياته في جنوب إيطاليا طلباً للشمس والدفء، ولم يستسلم لهذا المرض، بل كان يعمل، ويخرج في الهواء ويمرن عضلاته، لأنه كان يحس أنه في سباق مع الموت، ومع ذلك استطاع أن يعيش ثمانية وستين عاماً.

كان غوركي كاتباً غزير الإنتاج، وقد نشر العديد من القصص والروايات والمسرحيات، ومن أشهر قصصه القصيرة التي تفردت بالحيوية الشديدة (ستة وعشرون رجلاً وفتاة) و(تشيلكاش)، و(مالفا) و(مولد إنسان)، وهي جميعها تصورحياة طريدي المجتمع الذين وجد فيهم أمل المستقبل… ومن أشهر مسرحياته التي تصور الأحياء الفقيرة في المدينة مسرحية (الأعماق السفلى) أو(الحضيض)، وقد لاقت هذه المسرحية نجاحاً شعبياً كبيراً.

في عام 1900 هجر غوركي الأسلوب الرومانسي إلى الواقعية، فكتب روايات واقعية مثل (فوماغور دييف) و(الأم) و(الاعتراف) وغيرها.. وتبقى (الأم) التي صدرت عام 1906 من أشهر رواياته كلها، فقد طبعت ونشرت مئات المرات في روسيا وخارجهاأ، وترجمت إلى أكثر من أربع وخمسين لغة منها العربية، وقد ترجمها إلى العربية الدكتور فؤاد أيوب، ونشرتها دار اليقظة العربية بدمشق، ولا أعرف غير هذه الترجمة.

تزوج غوركي في 13 آب عام 1896 من (كاترينا لولجينا)، وفي تشرين الأول من هذا العام أصيب بمرض السل، لكن المرض لم يقعده عن العمل، بل زاده إيماناً بضرورة الكتابة والكفاح من أجل غد أفضل، فأصدر قصص (كونوفالوفا)، و(أسرة أورلوف)، و(مخلوقات كانت يوماً رجالاً) و(مالفا) وغيرها.. وكان بالفعل من أبرز وأهم الشخصيات الأدبية في عصره، وأكثرها تأثيراً ليس في الأدب الروسي فحسب بل في الأدب العالمي أيضاً.

العدد 1104 - 24/4/2024