«أحلم بزنزانة من كرز» كتاب جديد لسهى بشارة وكوزيت إبراهيم

معتقل الخيام كان رمزاً للاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان على مدى اثنين وعشرين عاماً (1978-2000)، اعتقل فيه الآلاف في ظروف شديدة القسوة، وفي انتهاك صارخ لحقوق الإنسان المنصوص عليها في الشرائع والمواثيق الدولية.

هذا المعتقل كان في الأساس ثكنة بناها الفرنسيون عام 1933 أثناء احتلالهم للبنان، واستخدمها الجيش اللبناني لاحقاً، ثم اختارها الإسرائيليون لتكون معتقلاً تشرف عليه وتديره بواسطة (ميليشيا جيش لبنان الجنوبي المتحالفة مع إسرائيل).

قصفته الطائرات الإسرائيلية في الأيام الأولى للحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز عام ،2006 مما أدى إلى تدميره تدميراً شبه كامل، حتى تخفي إسرائيل معالم جرائمها الوحشية، ولم يبق من المعتقل سوى جزء بسيط والكثير من الركام.

لذلك كان لابد من إعادة ترميم المكان، وبناء صورة له من بعيد، لتخطي أسواره وكشف ما يكتنزه من أحداث لإعادة خلقها في السرد.

من هنا كان كتاب (أحلم بزنزانة من كرز)، الذي يحكي ببساطة أحداثاً مثيرة، فيها صمود وبطولة، وفيها أيضاً جبن وتراجع وخوف، ترويها مقاومتان عاشتا معاً يوميات المعتقل الرهيب وظروفه.

وكما رأينا في كتاب (مقاومة)، لابنة الأسرة الشيوعية سهى بشارة التي حاولت اغتيال (قائد قوات لحد)، وأمضت عشرة أعوام في معتقل الخيام، وأفرج عنها عام ،1988 نرى في (أحلم بزنزانة من كرز) لسهى بشارة وكوزيت معاً.

كوزيت إبراهيم، صحافية مقيمة الآن في باريس، حائزة على ماجستير في الصحافة وعلوم الاتصالات، وماجستير في العلوم السياسية، اعتقلت عام 1999 وأودعت في معتقل الخيام، أمضت عاماً قبل أن يفرج عنها مع باقي الأسرى يوم التحرير في الثاني والعشرين من أيار عام 2000.

تبدأ كوزيت السرد من يوم التحرير:

(لا أستطيع تذكر تكسير الأقفال على أبواب زنازيننا في تلك الظهيرة الدافئة من أيام عام ،2000 كلما حاولت استعادة تلك الدقائق، لا أتذكر إلا جليداً في أطرافي ووجوها تدخل الزنزانة، ومعها كمية كبيرة من الضوء الذي – لابد- كان صاخباً على ما أفترض الآن.

يوم الثاني والعشرين من أيار ذاك بدأ مضطرباً منذ الصباح، لم تنقطع أصوات الدبابات الإسرائيلية المارة في سهل الخيام، رحنا نحصيها، لكن ما لبثنا أن توقفنا وشغلنا بمراقبة حركة الحراس والحارسات.. كان القلق والتوتر واضحين على وجوههم، وكنا معزولين تماماً عما يجري في الخارج بإجراءات صارمة تمنع وصول أية أخبار لنا.

لكن بالرغم من ذلك، كنا نعلم أن إسرائيل بدأت بالانسحاب من جنوب لبنان. كنا في حالة قلق وخوف كبيرين، هل سيتم الانسحاب دون مواجهات وإراقة للدماء؟ ماذا سيحل بنا؟ هل سينقلون الأسرى إلى إسرائيل؟ هل سيتركوننا لميليشيا (جيش لبنان الجنوبي) لتقرر مصيرنا؟ لم تستطع أية واحدة فينا الجلوس ثلاث دقائق متواصلة.. كنا نروح ونجيء في الزنزانة ويزيد توتر بعضنا توتر البعض الآخر.. وما هي إلا لحظات حتى بدأ إطلاق نار ممتزجاً بآيات تكبير آتية من قسم الرجال، ثم بصراخ زميلاتي الثلاث: (إنهم يقومون بتصفية الأسرى.. كانت نجوى تصرخ منادية ابنها وزوجها المعتقلين، وتلاقيها سوسن منادية أباها المعتقل أيضاً وأسمهان تحاول تهدئتهما.. أما أنا فكنت مسمرة وراء النافذة، ولم أعد أسمع شيئاً، غابت كل الأحداث عني.. أظن أن جسدي فقد في هذه اللحظات حرارته بالكامل، شعرت بتيبس وببرودة فظيعة في أطرافي وبخوف كخوف من سيعدم بعد لحظات.. أكره المعتقل، أظن أنني كنت في قرارة نفسي أتمنى أن يدمّر، أن يُمحى ولا يبقى له أثر، وحتى بعد مرور صباحات كثيرة على وجودي فيه، ظل شعوري عندما أستيقظ شعوراً بالكارثة، وكأنها حدثت للتو، ومنذ خروجي من المعتقل لم أشأ قط الكتابة عن هذا المكان، وكانت سهى كلما أثارت موضوع الكتابة معي أشعر برغبة ملحة في النوم، إلى أن كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز عام ،2006 فقد دمرت المقاتلات الإسرائيلية جزءاً كبيراً من المعتقل، فباتت لدى سهى حجة قوية لإقناعي بالكتابة، علينا أن نكتب لإعادة بناء صورة هذا المكان.

في النهاية كتبت هذه الصفحات، كتبتها لا تمجيداً لبطولات ولا إنكاراً لأيام الجبن العادي، فقط ونحن نسير سهى وأنا والأخريات إلى تطبيع حياتنا، أردت أن أترك ما يشبه تلك الأوراق الصفراء الصغيرة اللاصقة (Post. Lt) التي نكتب عليها ملاحظات أو أموراً يجب ألا ننساها، أردت أن أترك ما يشبه تلك الأوراق عن تفاصيل بعض ما عشناه في معتقل الخيام.. ذلك أنه لم يتسنّ لنا الحفر على جدرانه كما يفعل السجناء عادة، كما أن هذه الجدران لم تعد موجودة).

تصف كوزيت إبراهيم الكتاب بـ(سيرة الاعتقال)، وأنه ليس ذكريات وروايات، بل هو عمل توثيقي للحاضر والتاريخ.

ورغم ما تتعرض له المعتقلات من مختلف أشكال التعذيب والاضطهاد والقهر التي تذكرها النصوص، فإن هذه النصوص لا تعطيهن صورة البطلات وهي تخلو من ثقل الشعارات.. فتبدو معتقلات سجن الخيام على بساطتهن وسجيتهن يعبرن عن مشاعرهن وتفاصيل يومياتهن بأسلوب عادي وبتواضع فيه الكثير من الترفع عن الادعاء وإبراز الذات، وتحلّيهن بالإقدام والشجاعة والصبر.

تعتبر الكتابة خارج المعتقلات والسجون بعيداً عن الزمان والمكان أكثر وضوحاً ودقة، فالنصوص التي تضمنها الكتاب والتي يفوق عددها الستة والعشرين نصاً تتضمن أحداثاً وبطولات متنوعة تفوق الوصف، لكنها صيغت بأسلوب حكايا تعكس العلاقات الإنسانية، حب الحياة والتطلع إلى المستقبل دون حسرة أو ندم على ما فعلنه أو ناضلن من أجله.

ويلاحظ في النصوص أيضاً عدم الفصل والانصهار في الأسلوب السردي، وقد يكون مقصوداً من الكاتبتين لإعطاء صفة الجماعة على الفرد، وذلك بهدف عدم إشعار القارئ أنه أمام مسيرة مناضلة أو معتقلة بعينها، بل يشمل كل مقاومة اعتُقلت وعاشت التجربة.

يكتشف القارئ في النصوص هوية الشخصيات اللاتي يضمهن المعتقل من خلال معطيات متعددة: أسماء البلدات والمناطق والعائلات التي ينتمين إليها والمدة الزمنية التي قضينها في المعتقل.

من حديث كفاح عفيفي، وسمر صاحبة الصوت الجميل، وأم حبيب التي اعتقلت مع ولديها، نرى ما تعرضت له المعتقلات من تعذيب يهز الكيان الإنساني، خاصة التعذيب بالكهرباء، والإقامة المعزولة ضمن سنتميترات قليلة.

ونعود إلى سهى، التي كعادتها تروي الأشياء كما هي دون ادعاء، وما تركته حبات الكرز القليلة اللذيذة التي اقتحمت زنزانتها:

(عندما وصلتني مع طعام الغداء حبات الكرز القليلة تلك، في عامي الثالث في ذلك المكان، ارتسمت على وجهي ابتسامة كأن العالم استعاد شيئاً من شكله وألوانه.. ففي تلك الفجوة التي وضعت فيها لعامين ونصف تحول العالم إلى متر وثمانين سنتميتراً طولاً ونحو تسعين سنتميتراً عرضاً ولم يعد في أيامي من ألوان سوى تلك الباهتة.

كان باب الزنزانة أقرب إليّ من أفكاري، لا أعلم أين أذهب منه. في الشتاء يجمع البرد والصقيع ويرميني بهما، وفي الصيف يحمل إلي حرارة خارقة، أما أرضيتها فسمعت أنين كل عظمة من عظامي، وخبرت كل أزرق وورم في جسدي، وأنا أنام دون فراش أو أغطية، ويداي مكبلتان خلف ظهري، لا أستطيع حتى لملمة ضلوعي أو تحسس الأورام لعلها تتوقف عن التقيح.

وتضيف: (مرت ثلاثة أيام دون أن يعطوني ماء.. جف حلقي بقولهم: (ممنوع تشربي ماء).. كان عليّ أن أتحمل الضغط المؤلم أسفل بطني والتمزق في مثانتي كي لا أبول في ثيابي، لكن في ذلك اليوم فاق الوجع قدرتي على الاحتمال، مددت يدي المقيدتين إلى الأمام، نزعت سروالي وبلت عند الباب، كنت أعلم أنني أخاطر في افتضاح أمر تمديد يدي المكبلتين خلف ظهري إلى الأمام، فالبول خرج من تحت الباب. رآه المحققون من مكاتبهم قبالة زنزانتي.

سألتني الحارسة: ما هذه المياه؟ فأجبتها دون حرج!

ستة شهور انقضت الآن، ألغيت كل الإجراءات بعدما فقد مسؤول المعتقل الأمل بإمكان تعاملي مع الإسرائيليين، لكني بقيت في الزنزانة رقم  7. اليوم لدي فراش وغطاء وأنظم شعراً رديئاً مليئاً بالعنفوان وأغني إلى أن يجف ريقي..

سهى بشارة تحكي النضال الإنساني في رومانسية شفافة تجعلها تحلم بزنزانة من كرز، كما كانت ورفيقاتها في المعتقل يصنعن بالإبرة والخيطان بعض الأشغال اليدوية الفنية رغم صعوبة توفر المواد اللازمة.. هذه الأعمال الفنية الرائعة المتواضعة التي تضمنها الكتاب، والكبيرة بمدلولاتها، هي تكريس للفن والحرية، ورفض لقيود السجن والمعتقل، رفض لسجن أنفسهن داخل زنزانتهن، اخترن حرية الخلق والفكر، فلحظة الفعل هذه ساعدتهن على تمرير أيامهن البطيئة.

إن كل النصوص التي تضمنها الكتاب كتبت بطريقة مشوقة، الحكايات والأحداث، إذ يشعر القارئ معها وكأنه في قلب الحدث والزمن. بعيداً عن الشكل الروائي والأدبي يحكي السيرة الذاتية بأسلوب تمتزج فيه الشفافية الإنسانية والتوق إلى الحرية من أجل حياة حرة كريمة ومستقبل أفضل.

يتميز الكتاب الذي أصدرته دار الساقي- بيروت – لندن، بالأناقة ورشاقة الأسلوب في السرد وبلون فاكهة الكرز.. وهو من أدب السجون الرفيع.

العدد 1104 - 24/4/2024