من الصحافة العربية العدد 646

الداعشية لا تقتصر مواجهتها على الجانب العسكري

مع احتلال الإرهاب الداعشي حيزاً كبيراً من الاهتمام في منطقتنا وعلى الصعيد العالمي، لا بد من إلقاء ضوء على بعض الأسباب والعوامل التي ارتبط بها بروز هذه الظاهرة، التي تحمل بذاتها مضموناً تصادمياً مناقضاَ تماماً للمجتمع ومصالحه في التطور والتقدم.

فالظاهرة الداعشية لا تقتصر على ممارسة الإرهاب الوحشي، على خطورته، بل تستحضر أسوأ ما في حقبات الماضي البعيد، من أفكار ومفاهيم وتأويلات وممارسات، بغية إخضاع الحاضر المختلف جذرياً عن ذلك الماضي وظروفه. وهي تستفيد من ظروف وتراكمات سلبية دامت عقوداً طويلة، فشِلت فيها الدولة الوطنية، وقبلها سلطات السيطرة الاستعمارية، في القيام بمعالجات وحلول حقيقية، اجتماعياً ووطنياً وثقافياً، تدفع المجتمع في طريق الحداثة، وتنقل مختلف مكوناته إلى عالم اليوم. فالطابع القمعي والاستبدادي للأنظمة والدولة الذي شمل البلدان العربية، مع لحظ التفاوت النسبي بين دولة وأخرى، منع حصول حياة سياسية طبيعية في المجتمع، وحال دون اتساع وتنامي دور المجتمع المدني، وبخاصة دور الأحزاب والتنظيمات السياسية والنقابية المستقلة، التي استهدفتها السلطات بالحملات العدائية والقمع المباشر، فاستحال بذلك جعل الدولة ودورها ضمن المسار الطبيعي الذي يقضي بتداول السلطة وفقاً لقوانين انتخابية وممارسات تحترم الحدّ الأدنى من معايير الديمقراطية، وتوفر للشعب شروط المشاركة الفعلية في الحياة السياسية والعامة. وهذا ما حوّل السلطة والدولة إلى مجرد أداة للاستبداد والغرق في وحول الفساد، واعتماد توريث السلطة، بعيداً عن إمكانية محاسبة الشعب لها.

لقد أدّى كل ذلك إلى إبقاء المجتمع على تخلّفه غارقاً في لجّة الانتماءات الأولى لمكوناته دينياً ومذهبياً وقبلياً، بعيداً عن مواكبة العصر وتحت تأثير أفكار ومفاهيم تغيّر زمانها، ويُضفى عليها صفة القداسة، ولا علاقة لها بقيم الحق والعدالة والحرية وباقي مقتضيات تطور المجتمع، مما فاقم المشكلات والأزمات الاجتماعية والحياتية، وأدّى إلى تراكم الاستياء الشعبي المكبوت، نتيجة القمع والفقر والشعور بالتهميش التاريخي الطويل الذي طال شرائح اجتماعية كبيرة، وبسبب جَور حكام يستندون إلى قوى خارجية لحماية عروشهم ومواقعهم، مقابل تبعيتهم لها، وإباحة نهب الثروات العربية النفطية الضخمة وغيرها، التي لو استخدمت في الوجه الداخلي والعربي الصحيح، لحققت تنمية اقتصادية واجتماعية تقضي على الفقر والجهل والتخلف والتبعية. ولم تكن ظاهرة الحراك الثوري العارم الذي شمل معظم البلدان العربية، وبطابع سلمي بالأساس، خصوصاً في تونس ومصر، وبمشاركة الملايين، إلا تعبيراً وردّاً صحيحاً على القمع والإفقار والتبعية، ولإسقاط النظام الاستبدادي والحصول على الحرية والخبز والكرامة الإنسانية والوطنية.

إلا أن خشية قوى المخطط الأمريكي وأعوانه الداخليين، الهادف إلى الهيمنة على المنطقة وثرواتها، وضمان تفوق الدولة الصهيونية في المنطقة، واستغلال هذا المخطط ما يحتويه المجتمع وما تحمله عقول أسيرة ماض سحيق من أفكار وتناقض وصراعات قديمة بين مكوناته، أتاح له صنع ظاهرة التطرف والإرهاب الديني لاستغلال الوضع المذكور، واعتماد الفكر الإقصائي بل الإلغائي للآخر، أيّ آخر، وتوظيف هذا التطرف وإجرامه الوحشي، وسيلة لحرف الصراع الشعبي الكبير عن مساره التحرري والتغييري، وتحويله إلى صراعات ونزاعات وحروب محلية على أساس ديني ومذهبي وقبلي وإثني لتعميم الفوضى والاضطراب داخل بلدان المنطقة، لإشغالها واستنزافها وتفتيتها. لذلك فإن ظاهرة (داعش) وأخواته ومثيلاتهم ليست عملاً عفوياً أو نتاج المصادفة، بل هي وليدة ظروف مجتمعية متخلفة من جهة، وصناعة المخطط الأمريكي الصهيوني من جهة أخرى. وهي تجد في البيئات الفقيرة التي تحتاج إلى وعي مصالحها ودورها، وفي العصبيات المذهبية والطائفية المشحونة، مناخاً ملائماً لعملها الإجرامي. وهي منسلّة من (القاعدة) وتجربتها.

إن الخطر في دور الداعشيين، يكمن في إشعالهم نار الغرائز والعمى المذهبي الأحادي باسم المقدس، في مجتمعات عربية تحتوي على التعدد الديني والمذهبي، مما يجعل وحدة هذه المجتمعات واستقرارها مهدداً. لذلك فإن مواجهة الإرهاب الداعشي لا تقتصر على المجابهة العسكرية على ضرورتها، ولا على انتظار قيام الولايات المتحدة على رأس تحالف دولي معين بمهمة القضاء على داعش. فالضربات التي يوجهها طيرانها الحربي على مواقع (داعش) في شرق سورية وفي الموصل، لم تظهر حتى الآن أنها تبغي القضاء على الداعشيين، بل ترمي إلى إضعاف قوتهم وتقليص مساحة تمددهم، لإبقائهم تحت السقف الأمريكي ومقتضيات مخطط واشنطن.

إن مواجهة هذه الظاهرة الإرهابية عندنا في لبنان وفي البلدان العربية، لا يمكن اقتصارها على المجال العسكري، بل ينبغي أن تشمل الشأن السياسي وبنية النظام والدولة، لتصبح دولة المواطنة الموحّدة للشعب والفاعلة في نشر ثقافة الوطن والإنسان والحياة، بديلاً من الدولة الطائفية والمذهبية. ولتكون دولة الديمقراطية التي تضمن حرية الفكر والمعتقد والتعبير للجميع، بديلاً للدولة القمعية، ودولة العدالة الاجتماعية التي تلغي الفقر والحرمان والعوز.

ودون ذلك تبقى حالة العصبيات الدينية والمذهبية، وبيئات الفقر والبؤس، ملائمة للداعشية، وغطاء تحتمي فيه خلاياها.

موريس نهرا

(النداء)، 8/10/2014

العدد 1104 - 24/4/2024