الانتحار… قضية أم تضحية؟!

لم يجد ناصيف (17 عاماً) أمامه حلاً إلا إنهاء حياته بعد أن خانته صديقته (برأيه) بقرارها الزواج من سواه، لكن الحظ أسعفه إذ وجدته شقيقته فور تناوله الدواء وتمكنت من إسعافه، بعد قراءة قصاصة الورق التي تركها قبل شروعه بالانتحار: (الإنسان لا يختار ولادته… فلماذا لا يختار موته!!).

حالات كثيرة يشهدها المجتمع السوري بشكل دوري لأشخاص قرروا وضع حدّ لحياتهم، لن يكون آخرها الفتاة (ي.ب) التي شنقت نفسها على شرفة منزلها الأسبوع الماضي في مشروع دمر، لشعورها بالوحدة والعزلة كما زعم البعض، حال (ي.ب) كحال كثيرين بتنا نسمع اليوم قصص انتحارهم، فسيدة تناولت سماً لعدم إنجابها الأطفال، وآخر شنق نفسه بعد إفلاسه، وشخص رمى بنفسه من شرفة منزلة لعدم تمكنه من تأمين احتياجات أسرته الأساسية.

فبات الشارع السوري اليوم يشهد ارتفاعاً ملحوظاً في عدد حالات الانتحار لأسباب عديدة لعل أهمها سوء الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، التي فاقمت معدلات الفقر والبطالة في ظلِّ الأزمة، إلى جانب غياب الحريات التي تسببت في إحداث حالة من الضغط النفسي لدى المواطنين، ولا سيما شريحة الشباب، بما زاد من معدلات اليأس ودفع بعضهم للجنوح إلى الانتحار.

هروب أم حل

يعدّ الانتحار أحد الأعمال التي تتسبب عمداً في قتل المرء لنفسه أو إنهاء حياته بإرادته، لاعتقاد  صاحبها بأن مماته أصبح أفضل من حياته، ويحدث الانتحار لعدة عوامل منها النفسي حيث حلّل فرويد الانتحار بأنه عدوان تجاه الداخل، ثمَّ قام عالم آخر بتحديد ثلاثة أبعاد للانتحار، هي: رغبة في القتل، ثمَّ رغبة في الموت، ثمَّ رغبة في أن يتم قتله.

وقد اختلفت الآراء حول الانتحار إن كان يعكس شجاعة الشخص المنتحر أم جبنه وانعكاساً لفشله وعدم الحاجة لاستمرار حياته.

وللوقوف حول مفهوم الانتحار وأسبابه، التقت (النور) الكاتبة إيلين الخوري التي بيّنت أنَّ الانتحار جريمة جماعية وليست فردية، فدافعها يتعدى فكرة الشخص بالانتحار للتخلص من الواقع المعاش، وقالت: (في ظل الواقع الذي نعيشه حالياً تعددت أسباب عدم وصول الشخص لأبسط الأمور التي يحقق من خلالها جزءاً من طموحه)، وبينت أنَّ انسداد باب تلو الآخر يدفعه للتفكير ملياً بالتخلص من كل شيء لم يعد له قدرة على تحمله، إن كان على الصعيد العملي أو الشخصي، خاصة مع وجود كثيرين يسرقون حلمه أمام عينيه بدافع القوة، وهو ما يحطم الإنسان ويجعله مكسوراً.

وأردفت الخوري: (إنَّ تراكم الأسباب مجتمعة يجعل دولاب حياة الإنسان ينتفخ وينتفخ إلى أن ينفجر فجأة، ليكون مصيره التخلص مما يعيشه)، وأشارت إلى أنَّ السبب الحقيقي للانتحار أو محاولة الانتحار يكون في مشاعر كمينة ودفينة من عدم الرضا عن الواقع الذي يعيشه الإنسان نتيجة تراكم ضغوط متعددة الإشكال، وختمت حديثها بالقول: إنَّ جريمة القتل الكاملة هي أن تدفع الآخر للانتحار.

بدوره أشار محمود مصطفى (مدير موقع إلكتروني) إلى تباين الأسباب التي تدفع المنتحرين للهروب من الواقع بعد أن يكونوا قد ضاقوا ذرعاً به، منها أساب عاطفية، اقتصادية، نفسية، صحية كالإدمان، أو دينية…

وفيما يتعلق بدور الدولة في الحد من ظاهرة الانتحار قال مصطفى: (يجب على الدولة الانتباه للأجيال الصاعدة وتقديم كل ما يلزمها من مقومات الحياة الكريمة، وأن تكفل حقوق المواطن الأساسية بالمسكن اللائق وتأمين عمل يوفر له دخلاً مناسباً يحفظ كرامته ويكفل له حياة لائقة).

وأكد أنَّ دور الدولة سلبي بشكل عام في التعامل مع القضايا الحياتية والمطلبية، وهو ما دفع الكثيرين للهروب من البلد بعد أن فقدوا الأمل في العيش، وتساءل: لماذا ينجح معظم المهاجرن السوريون في الخارج، بينما لو بقوا في بلدهم لكان مصيرهم الضياع والفشل.

أضاف: (إننا لا نملك في بلادنا وسائل صحيحة لتوجيه طاقات الشباب والحفاظ عليها وضمان مستقبلها، إذ يتم التركيز على دفع الشباب نحو الشهادة والاستشهاد في سبيل الوطن، ولكن الوطن لا يريد الكثير من الشهداء، الوطن يريد الناس أحياء لينعموا فيه وفي حضنه).

قضية أم تضحية؟

بدوره أشار المصور الضوئي طوني بكردجيان إلى انعكاس الوضع الاقتصادي والمعيشي على قرارات الناس دائماً، وقال: (لقد تضخمت الأسعار بحدود 350%، وفقدت الليرة قرابة 70% من قيمتها، وازدادات الفجوة بين الأجور والأسعار مع غياب إجراءات فاعلة لتقليصها، وجلّ اهتمام الحكومة هو تأمين موارد للخزينة ولو من جيوب الفقراء والمعوزين، حيث باتت ترفع الأسعار وتنسحب من دورها الاجتماعي في تقليص الدعم).

وأشار إلى سماعه عن سيدة أضرمت النّار في جسدها لعجزها عن تأمين مطالب أطفالها، وقال: (لقد شعرت هذه السيدة بعدم الفاعليّة في البحث الإيجابي النشط للتخلص من المعاناة وسوء المعيشة، وأصيبت باليأس والعجز وفقدان الأمل ما دفعها للانتحار)، وختم حديثه قائلاً: (الانتحار يبدو كقضية ولكنه سيبقى كتضحية).

اليأس.. انتحار القلب

من جهتها قالت باحثة اجتماعية (طلبت عدم ذكر اسمها): (إنَّ قضايا مثل العنف المنزلي والزواج المبكر والبطالة والتربية الخاطئة وعدم القدرة على تحمل المسؤولية، تسهم في انتشار ظاهرة الانتحار)، وبينت أن أصحاب محاولات الانتحار (مرضى نفسيون أهملت الأسرة والمجتمع رعايتهم).

وبشأن الحلول الممكنة لظاهرة الانتحار، دعت الباحثة العائلات إلى مراقبة تصرفات وسلوك وردات فعل الأبناء والبنات، ومراقبة أفعالهم ونفورهم أو استجابتهم لمتغيرات الحياة، إضافة إلى دور المدرسة والجامعة التي يجب أن تضم مرشدين نفسيين حقيقيين، يمتلكون الخبرة لتقديم الدعم النفسي والاستشارة المطلوبة.

وأقترحت إنشاء جمعية لمساعدة ضحايا الانتحار المحتملين على اجتياز المرحلة التي يمرون بها، والعمل على تخليصهم من الأسباب التي تدفعهم إلى التفكير بالانتحار، أي العمل على مساعدتهم على إعادة تأهيل ذاتهم ورؤيتهم للحياة عن طريق برامج علاجية تأهيلية متكاملة.

كما نوّهت إلى انتشار الأمراض والاضطرابات النفسية اليوم بين الكثير من السوريين، خصوصاً النازحين والمشردين داخل سورية واللاجئين خارجها، ومنها أمراض مثل القلق والتوتر والضغط النفسي والإحباط والاكتئاب.. وغيرها، ودعت إلى تدريب المزيد من الأطباء والممرضين وتشكيل مجموعات ولجان لنشر الوعي، والتخفيف من هموم السوريين ومشكلاتهم، ومحاولة إعادة الاستقرار إلى أسرهم وعائلاتهم وتجمعاتهم.

وأشارت من ناحية أخرى إلى التفاوت الطبقي الحاد في المجتمع السوري حيث تتركز الثروة في يد جزء ضئيل من الشعب مقابل النسبة الباقية التي باتت تلقى سبل حياتها (بالقطارة)، وأكدت أن هذه المعادلة تشكل خطراً كبيراً على السلم الاجتماعي في سورية.

الانتحار في القانون السوري

المحامي حسام زخور رأى أنَّ المشرع السوري تطرق لقضية الانتحار على اعتبار قتل للنفس، ولكنه لم يفرض عقوبة على المنتحر في حال تمَّ فعل الانتحار كما كان سابقاً في بعض المجتمعات، بل فرض عقوبات على من يحاول الانتحار. وقال زخور: (نصت المادة 539 من قانون العقوبات على معاقبة من حمل إنساناً بأي وسيلة كانت على الانتحار أو ساعده بطريقة ما على قتل نفسه بالاعتقال عشر سنوات على الأكثر إذا تم الانتحار).

وأضاف (كما يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين في حالة الشروع بالانتحار ونجم عنه إيذاء أو عجز دائم، أما في حال كان الشخص المحمول أو المساعد على الانتحار حدث دون الخامسة عشر من العمر أو معتوه فتطبق عقوبات التحريض أو القتل أو التدخل فيه).

وعموماً لم يثبت القانون فعاليته في منع الانتحار، بل إنّه يفيد في كفّ محرّضي الانتحار، لذلك فإنّ الوقاية من الانتحار هي خارج نطاق القانون ومن اختصاص رجال الاجتماع والأطباء النفسانيين.

أرقام غائبة

بين التقرير السنوي لمنظمة الصحة العالمية المخصص للانتحار أنَّ أكثر من 800 ألف شخص ينتحرون سنوياً على مستوى العالم، أي بمعدل 40 شخص في الثانية، أي حوالي 1.4% من الوفيات في جميع أنحاء العالم، الأمر الذي يجعله السبب الرئيس الخامس عشر للوفاة، والسبب الثاني للوفاة عالمياً للفئة العمرية (15-29) عاماً.

وجاءت قارة آسيا في المرتبة الأولى بنسبة المنتحرين بمعدل 17.7%، كما أن نسبة الانتحار في الدول المتقدمة (12.7%) تعد أعلى من نسبته في الدول الفقيرة (11.2%)، وتعتبر نسبة الانتحار لدى الرجال أعلى بضعفين مقارنة بالنساء.

عربياً حلّ السودان في الصدارة بنسبة عالية أقل بقليل من النسبة الآسيوية بـ17.2% حالة انتحار لكل 100 ألف، أما في آخر الترتيب بالنسبة للدول العربية وأقلها تسجيلاً لحالات الانتحار فجاءت كل من السعودية وسورية بنسبة 0.4% لكل 100 ألف شخص في كلا البلدين. ومن ناحية أخرى أفادت دراسة دولية عن واقع الشباب المتأثرين من الأزمة السورية في لبنان، (ونشرت في تموز الماضي) بأن احتياجات الشباب السوريين اللاجئين في لبنان (لم يجرِ تلبيتها بطريقة منتظمة)، واصفة حال هؤلاء الشباب بـ (الهشة)، ما دفع 41% منهم للتفكير بالانتحار، وأن 53% منهم لم يشعروا بالأمان في البلد المضيف.

ولعل انتشار هذه الظاهرة بكثرة ملحوظة دفعت بالأمم المتحدة لإعلان اليوم العالمي لمنع الانتحار الموافق 10 أيلول من كل عام على أمل الحد من أعداده المتزايدة.

وأما عن الأرقام الرسمية السورية فكان من الملاحظ غيابها وعدم وجود أرقام معلن عنها عن نسب الانتحار.

أخيراً

إنَّ التحدي الماثل اليوم أمام المجتمع السوري والحكومة هو كيفة استعادة الصحة النفسية للشعب السوري إلى معدلاتها الطبيعية، وهو ما يتطلب تفعيل الحل السياسي وإيقاف العنف في البلاد، والعمل على تفعيل أسس العدالة الانتقالية، إضافة إلى تأمين الحقوق الأساسية للمواطنين في الحياة، إذ بات اليوم أكثر من 80% من السكان يعيشون في حدود الفقر، ونصفهم يحتاج إلى مساعدات إنسانية، ففي ظل هذا الوضع المتردي اجتماعياً واقتصادياً هل سنشهد المزيد من حالات الانتحار، وتكون بمثابة (بوعزيزي) سوري؟!.

العدد 1105 - 01/5/2024