«اعتدال» القامة… ورفعة الإبداع

(امرأة من برج الحمل) وطالع المريخ: مُكتنزة القامة، قمحية البشرة، ذكية النظرة والعبارة، كثيراً ما يُخطئون بلون عينيها الزرقاوين، فيكتبونهما سوداوين، وباسم أمها مَلَكَة، فيكتبونه مَلَكيّة.

ولدت القاصَّة وكاتبة المقالة والصحفية (اعتدال رافع) عام /1937/ في مدينة (عالية) في لبنان، حصلت على الإجازة في التاريخ من جامعة دمشق. عملت بدايةً، في حقل التعليم ثم في مديرية الآثار والمتاحف. كتبت في جريدة (البعث) زاوية (حديث الصباح)، ثم في جريدة (تشرين) في زاوية (آفاق ثقافية). كما عملت في مجلة الأزمنة العربية من 1989-1991. وفي جريدة صوت الكويت من 1990-1991. تزوجت من الفنان أنور البابا وأنجبت منه ابنتين.

عشق مذبوح

إذا كان الاعتدال في أحد تفاسيره، يعني الوسط والوسطية في الأمور، فلم يكن نصيب (اعتدال) من اسمها سوى لناحية طولها فحسب. وذلك ما لم يكن لها فيه ذنب ولا يد.

أما عن موقفها في الحياة واقعاً وإبداعاً، فقد عرفت بجرأتها وثقتها بنفسها.. بمنافحتها عن حقوق المرأة.. بتمردها على ثقافة التجهيل والتسلط.. وبثورتها على بالي ومُتخلِّف التقاليد والعادات. كما انحازت (اعتدال) للحق وللحقيقة وانتصرت لأصحابهما، المظلومين المُهمشين، المُنكسرين شوكةً وخاطراً وعظماً. وعبَّرت عن مُقاساتِهم. بلا وجلٍ ولا خوف ولا استحياء. تقول (اعتدال رافع) في قصة لها بعنوان (ثأر) سردتها بضمير المتكلم، كونها- كما أظن – تتكلم عن تجربتها الخاصة، أولاً. وتنطبق على كثيراتٍ من نساء مجتمعنا، ثانياً:

كبرتُ وكَبُرت سبابتي معي، حرشفتها الفصول وأرعدتها الجفلات وتيبست من الخوف الذي كان يلوكنا معاً ويلفظنا أنيناً خافتاً، وإذا ما ناداها القلم ترتعش وترتعد كأنها ذاهبة إلى المقصلة. تمسكه وهي مجبولة بنزيف قلق. ودون قصد مني، تكوِّم تاريخها على لسانه، ينزّ حكايا وجلة وأغاني مبتورة وعشقاً مذبوحاً بحرابٍ غير مرئية.

قهر الإنسان

قد لاتكون الصعوبات والعقبات والعثرات، التي تعترض المرء خلال رحلة عمره، وما ينتج عنها من مشاكلٍ وربما مآس. هي بذرة الإبداع أو الشرط الأول لإنتاش تلك البذرة وإنضاجها لديه، لكن من غير المختلف عليه، أنَّ فيما سبق ذكره، ما يُغني تجربة الأديب ويصقلها ويُكسبها نكهتها الخاصة. ولأن حياة الكاتبة التي عاشتها ما بين سورية ولبنان، لم تكن بخيلة بأسباب الحزن والعذاب، على أديبتنا (رافع) فقد ترك ذلك ملامحه وظلاله على غير مَعلمٍ ومنطقة وزاوية، من شخصيتها وشخصيات قصصها.

تقول الأديبة (رافع) عن بطلة قصتها (الجرح):

(لمَّا زال عنها المخدر خاب أملها لأنها ما زالت على قيد الحياة.. كم تمنت أن تغادرها روحها وهي في غيبوبة البنج).

وتقول الناقدة الدكتورة ماجدة حمود عن صاحبة (مدينة الإسكندر):

تكتب اعتدال رافع بدم القلب قهر الإنسان،  فتُجسد أوجاعه التي هي أوجاعها. لهذا حلَّقت قصصها بعيداً عن الألغاز والحذلقة اللغوية. إنها تعيش كلمتها وتتنفس بفضلها، فهي فرحتها الوحيدة التي أمدتها بالروح ودفعتها للاستمرار في الحياة.

سمراء كالفيافي

تنتمي اعتدال رافع إلى الجيل الثاني من أعلام القصة العربية، اللواتي أسسن للقصة الحديثة وتركن بصمتهنَّ على القصة في سوريا، كدلال حاتم وكوليت خوري وقمر كيلاني وناديا خوست وغادة السمان، الأخيرة التي تباعدت (رافع) عنها بيئياً وطبقياً، وتقاربت منها ميازاً في الأدب وخصوصية في الإبداع.

وتكتب (رافع) لا كمن تكتب للنشر وللآخر- بأبجدية وأريحية خاصتين – بل كمن تكتب لنفسها ليس إلا. بكلمات أخرى، تكتب وهي ناسية أو مُتناسية سائر (من-  ما) حولها، لتتمركز ذاتاً وذاكرة واهتماماً، على ماهية الفكرة التي تعالج. فإذا بالأخيرة تنزلق على لسانها ومن بين أصابعها، كالسمكة في الماء، مُقدمةً نفسها بنفسها. ولنا على ما ذهبنا إليه، أمثلة. يقول بطل قصة (الخلاص):

(صغاراً كنت وخديجة نتشارك في سرير واحد، وأبي وزوجته في سرير واحد أيضاً. أربعة أجساد.. أربعة قلوب.. أربعة جدران فقط، والليل محشور وقائظ، تعب وجوع ورغبات وعرق وأحلام ودهشة (…) نتظاهر بالنوم باكراً نحن الصغار، خوفاً من النهر والضرب والتأنيب. ونخلي الجو للأزواج لممارسة الحب..).

يقول أحدهم في قصة (الدرب إلى المجرة):

(أنا صغير وخائف، وأمي سمراء كالفيافي مشدودة القامة والعينين. وعسكر الفرنساوية لا يوفرون حتى المرأة المُجهَضَة، فكيف أمي؟).

وجاء على لسان بطل قصة (امرأة من هذا الزمن):

(الارتجاج ماركة عالمية مُسجَّلة باسم الأرواح المتمردة على القوالب والضيق والأقنعة والبروتوكولات!).

السهل الممتنع

مثلما تسمع فيروز تُغني، فتسرقك من نفسك،صوتاً ولحناً ومعنىً، من دون أن تستجلي، كمستمعٍ عادي، البواعث الفنية لإعجابك. وقد تتمثل، حضرتك، الأغنية الفيروزية، كوجبة فنية، بيُسر وسهولة إلى حد يبدو لك لوهلة أن باستطاعتك أن تأتي بمثلها. الأمر الذي يستعصي عليك بل يستحيل تحقيقه عملياً،كونه من فصيلة السهل الممتنع.

الحال ذاتها، تقريباً، تكتنفك، كقارئ عادي، إثر قراءتك نصاً ما، قصة كانت أو خاطرة أو مقالة صحفية، يعود للأديبة (رافع).

(وصفنا فيما سبق المستمع والقارئ بـ(العادي) للتمييز بينهما وبين المختص والناقد). ولعله من المصادفات السرَّانيَّة في الحياة، أن تشترك الفنانة فيروز والأديبة (اعتدال) في أكثر من صفة أو طبعٍ أو مزيَّةٍ إذا شئت. مثل الاحتفاظ للنفس بمجريات الحياة الخاصة.. ندرة حضور الحفلات والاحتفالات والمناسبات العامة.. والابتعاد عن إعطاء التصريحات لوسائل الإعلام والمشاركة بلقاءات وندوات وما شابه.

ساقية الأحزان

إلى مزيَّة (السهل الممتنع)، التي تحلى بها أدب صاحبة (الصفر) و(يوم هربت زينب)، فقد توافرت كتاباتها على مزايا أُخرى عدة، كالتوظيف الفني لألفاظ عامية:

(مطعوج.. دحاحل.. طراحة.. خرطوش.. قنينة.. قرقور)

وأمثال:

(حط إيدك في عينك، مثلما توجعك توجع غيرك.. كل عنزة معلقة بكرعوبها.. القناعة كنز لا يفنى.. بيسكر من ريحة الفلينة..).

وتعابير شعبية:

(يا رب ثبِّت علينا العقل والدين.. الجوع كافر.. طق عقلها.. دفعت ثمنها من عبها.. البلاد اشتاقت لأهلها.. النظافة من الإيمان)

أما السخرية، فهي المزيَّة التي تعزفها الكاتبة على أكثر من مقام. فها هو بطل قصة (عزف منفرد) يقول:(أنا مليح وزوجتي مقبولي وكلانا على قسط من العلم والثقافة، لا أنكر أنني أخون زوجتي من حين لآخر لأرفد قلبي بمياه جديدة وأُبعِد عن نفسي شبح الرتابة والملل).

تصف بطلة قصة ( انتحار العاصفة ) جدها الفلاح: أنه كان يكره الكتب لأنها تبعد الناس عن الأرض. وأتعس لحظات حياته وأكثرها حرجا هي (البصمة) عندما كان يضطر أن يمهر بصمته على ورقة. قنينة من الكوبيا لاتكفي لتغطية مساحة إبهامه الواسعة العميقة الأصيلة الشقوق..

وقد جاء في قصة تفاصيل صغيرة:

زمن حُكِم فيه على الإنسان أن ينتعل رأسه يلبط به كرة منفوخة بالهواء تارةً ويهرول به تارة أخرى طلباً للرزق والأمان، وكلما اهترأ نافوخه يركب له نصف نعل من الأوهام..

كما تُصرِّح رقية في قصة تحمل اسمها:

عندما خلقني الله كان مستعجلاً جداً، لم يقصد بي شراً، وإن كان قد وضع قلبي مكان عقلي وعقلي مكان قلبي، فلأنه مثلي مُغرمٌ بالطابات والعرائس والأراجيح والبحر.

المرأة قصيدة

لقد رافقت (الشعرية)- بمفهومها الأشمل والأوسع والأدق، بما هي حالة وموقف- أطراف حياة كاتبة (بوح من زمن آخر) وآلاء أدبها. علماً أنها لم تنشر سوى مجموعة شعرية واحدة، صدرت مؤخراً عام /2010/ بعنوان (كلمات مسافرة) فها هي الشعرية، تلاقي الأديبة، في مطلع قصتها (أغصان لا تحط عليها العصافير) حيث تقول:

(يا ساقية الأحزان،

التي خبأت وشوشات النجوم في حضنها،

ألا تتعبين من نوح الصفصاف على ضفافك؟)

وفي مطلع قصة عاشقة:

(تلك المرأة التي اسمها (ناهدة) لا تشبع من العشق. كلما عشقت تصغر عشر سنوات وتعود طفلة تتلعثم بكلماتها وخفقانها..).

تقول بطلة قصة (الهوية الناقصة):

(قال لي صديق زوجي الحميم: أنت امرأة مشبعة بالشمس والمطر والبحار، في عينيك سحابة لم تمطر بعد، ودعاني أن نتكاثف معا في قبو معتق..).

أما الشعر عندما يصدر عن شاعر كما في قصة (فارس) فله طعم آخر:

النهر قصيدة والشلال قصيدة والمرأة الجميلة قصيدة..

كل ما حولنا قصائد رائعة كتبها الله بلغته التي نعجز عن محاكاتها.

معظم مزايا أدب (رافع) ما مر ذكره هنا وما لم يمر. نقع على ظلال له في قصتها القصيرة – ولا نقول كما لم تقل هي (القصيرة جداً) -(العيب):

(في ليلة الدخلة تفجَّر جسدها.. وردة، التصقت به كما تلتصق المحارة بصدفتها.. كثَّفت فيه توق روحها إلى كينونة الماء. فجأة نهض وانسلخ عنها كأنما لدغته أفعى! ما أن فتح شدقه حتى أطلت الأفعى برأسها من بين أسنانه وفحَّت فحيحاً قائلاً: من علمك فنون العشق.. همدت صارت جثة، وظلت ميتة دهراً.. وهو كان يعتليها ويصهل فوقها كأنه حصان يسابق الريح!).

اهتمام بما يكفي

لئن حاولنا هنا، الإطلال على كتابات اعتدال رافع، بقصد القبس من إبداعاتها والتعرف إلى أجوائها. فقد اهتمت مؤلفة «بيروت كل المدن وشهرزاد كل النساء» بقضايانا أريافاً ومدناً، وهمتها همومنا نساءً ورجالاً. فعالجت في قصصها – وبأسلوب الماتع المؤلم – مشاكل وأمراضا شتّى. مما يقرّح جسد مجتمعنا ويقضّ مضجع روحه، بما فيها تلك المشاكل العويصة المحاطة بأشواك الاتهام والتمريق، وأسلاك التكفير والتعهير كـ (مواقعة المحارم) التي يتلجلج حتى الرجال من الاقتراب منها، ناهيك بالتخويض في آسن مائها وزاكم رائحتها. مثالنا على ذلك قصة (الخلاص).

وبعد .. إذ نكتفي بما تقدم، كون الإطالة لن تحقق لنا الإحاطة بكل تشعبات سيرة حياة الكاتبة. ولا التعرف إلى سائر شعاب أدبها، أراني مدفوعاً للتساؤل:

كم حريٌّ بنا، كأصحاب شأن ومسؤولين، أن نلفت عين عنايتنا، إلى من ذرف دموع عينيه وعمره على درب عدالة التشريع وحرية التعبير. ومن نزف حبر قلمه وقلبه في سبيل رفع راية الإبداع ومجد الإنسانية.. كم هي جديرة باعتنائنا واهتمامنا اعتدال رافع صاحبة (رحيل البجع) قبل أن ترحل عنَّا؟

وكم يصح على أديبتنا اعتدال رافع، مثلما يصح على كثيرات وكثيرين من أديباتنا وأدبائنا، مقبوس (توني موريسون) الذي عتّبت به الأديبة (رافع) مجموعتها القصصية (بوح.. من زمن آخر) حيث يقول:

(كان يريد أن يهتم أحد بألمه اهتماماً عميقاً جداً بما يكفي لاحتضانه، عميقاً بما يكفي لهدهدته، عميقاً بما يكفي للسؤال:

كيف تشعر؟ هل أنت بخير؟

هل تريد بعض القهوة؟).

العدد 1105 - 01/5/2024