فيها تكمن روح سورية العتيقة… المدن القديمة كإغواء لوني للفنانين التشكيليين

شيءٌ ما..يشدُّ الفنانين التشكيليين صوب المدن السورية العتيقة، شيءٌ ما.. يأخذ بتلابيب ريشة هذا الملوّن – الرسام، ليفتح ألوانه على وجوه الأقمشة البيضاء، و.. لتكون تلك العمارة التي بُنيت مداميكها ذات حين من عمر هذه (السورية ) التي تُخزن في تفاصيلها ملايين الحكايا والسنين، من هنا ستختلف الدوافع في إنشاء هذا المعادل اللوني لتلك العمارة العتيقة، هكذا تبدو دمشق ملونة في آلاف اللوحات التشكيلية، لا ينافسها في هذا الحضور التشكيلي سوى شقيقات لهنّ حضورهن العتيق منذ آلاف السنين أيضاً، نبدأ من معلولا ببعدها الروحي، إلى عمريت وأوراد، و..طرطوس بالصمود المواجه لعاتيات البحر منذ (نينار) وصولاّ إلى أوغاريت التي تصدّر أبجديتها تارة، أو أزرقها حيناً، و.. طوراً أو أروانج الفنيقيييين علامتهم الفارقة لكل الدهور، و.. لن تنتهي عند تدمر الأوابد التي تحكي سجلات بطولات وصد غزوات.

دمشق الملونة

هنا..ستبدو دمشق الأكثر حضوراً واحتفاء في مساحة اللوحة الفنية، حضور يبعث على الإدهاش في هذا الكم الهائل من اللوحات التي كانت أشبه بالوقف التشكيلي لهذه المدينة، حتى أن بعض الفنانين التشكيليين أوقف كل نتاجه التشكيلي لتصوير دمشق القديمة، فهذا ناظم الجعفري – على سبيل المثال – مسح دمشق بستة آلاف لوحة، محققاً رقماً قياسياً في رسم تفاصيل هذا الجزء الحميمي من ذاكرته الطفلية، وسهيل معتوق أيضاً، أوقف هو الآخر كامل تجربته الفنية لموضوع دمشق القديمة، هذا الجزء من دمشق الذي صار اليوم مشغلاً ومحترفاً للكثيرين من الفنانين سواء في المراسم والمحترفات التي أنشؤها فيها، أو من خلال  الصالات التشكيلية التي اتخذت لعرض اللوحات الفنية، والتي يُشبهها – دمشق القديمة – بعضهم بامرأة في أسمال، شكلت لدى معظم الفنانين نصف إبداعهم، وشكلت لدى آخرين (90-95%) من نتاجهم.

طرطوس الحلم

بدورها ستبدو طرطوس القديمة عند ممدوح النابلسي، وغسان جديد، كدنيا مشتهاة حيث يُعيد الأخير تشكيلها بصياغات متعددة. ولانهاية لتعدد صياغاتها. وإذا كان ناظم الجعفري اشتغل على دمشق القديمة توثيقياً وموغلاً في رسم تفاصيل هذا الجزء الحميمي من ذاكرته كشاهد على ولادته ونشوئه الأول، فإنّ غسان جديد سيلتقط من المكان روحه، كصرخة ملونة عفوياً وكأنها رسمت بيد طفل، فتأتي الأمكنة سابحة كالأرواح في بحر أو فوق بحر من الألوان الحارة والباردة معاً بكل صراختها ووضوحها، حيث سيتجاور الأورانج بتدرجاته بين البني والبيج، مع تدرجات الأزرق، اللونان الذي نشأ عليهما وتشبثا بتلافيف الذاكرة، ألوان البحر الزرقة المتبدلة مع مزاجية الموج. وألوان البحر الرملي الذي شيّدت به طرطوس القديمة..!! 

و.. قبل أن يلمّ ضوء الشمس بقليل، وفي ليالي الشتاء، والأيام الماطرة، تلك الأزمنة المناسبة سيختارها الفنان وائل الضابط لقنص لحظات (أنترادوس) في لوحة تشكيلية نادرة (فوتوغرافية).. ليأتي بألوان تناسب عمارة المكان وأحجاره الرملية الصامدة منذ آلاف السنين، في وجه كل أنواء البحر، وفي وجه كل من جاء من غُزاة هذا البحر، أو براريه، فكانت لقطات الفنان الليلية، كإثبات حال، أو أحوال مؤقتة للمدينة المهيبة بعمارتها الفخمة، وهي في حالة غموض، تُثير الألغاز تارةً، وطوراً تُوحي بالدعة، والسكون، والسلام، مدينة تستعيد قواها بعد فوضى النهار في فناءاتها..وكان أن جاءت الصورة بإحساس الرسم، بالاقتصار على تدريجات اللون الأسود هذه المرة، والمراهنة عليه، ليكون الحامل لكل الإنزياحات الأدبية، التي تقدمها جماليات الصورة- اللوحة، من خلال تنويعات العمارة العتيقة، التي ترصدّها بأزمنةٍ مختلفة، وفي غفلةٍ من غياب الشمس..

خوف على عمارة

يذكر الفنان ممدوح قشلان الذي يعيش ضمن أجواء دمشق القديمة، ويترعرع فيها، ويتشرب عادات سكانها وتقاليدها الاجتماعية، فلا بد أن يكون وفياً لها: من هذا المنطلق رسمتها لأوفي بواجب الوفاء لها ولأعبّر عنها، والتعبير الفني لا يكون بالنسخ الفوتوغرافي، وإنما يكون عن دراية في اختيار ودراسة للتكوين الفني المستلهم من (القديم)، فتكوينات البيوت المتراكمة والمتلاصقة والمتقابلة والمتساندة على بعضها بعض، تعطي حميمية القيم الاجتماعية بين الناس، والصورة عندي ليست خارجية وإنما هي بالعمق الروحي، وإذا كان هذا دافع قشلان في رسم لوحة دمشق، فقد جاء لدى آخرين بدافع الخوف على هذا العالم العتيق من الاندثار كما فعل الجعفري، وكذلك كما فعل الكثيرون الذين تناولوا معلولا أو تدمر، فكان التوثيق والتسجيل هاجسهم، فيما البعض الآخر راح يُفتش عن الروح السورية العتيقة الكامنة في المكان، فراح يستنهض تلك الروح، وُيعيدها لتضج من خلالها الحركة ملونة، أو في إعادة تجسيد ثانية في جمالية جديدة بكامل الإبداع.

البعض الآخر من الفنانين التشكيليين، أخذ بعضاً من ملامح سورية العتيقة، من أصفر تدمر، أو من جرار الفينيقيين، من ملامح أسطورة، أو من رموز قديمة، فيعود هؤلاء إلى الأرض القديمة، ليأخذوا لوناً، أو ليستعيروا أسطورة، أو حكاية، أو تكويناً قديماً، ليبنوا عليه نتاجهم التشكيلي المعاصر، كما فعل كل من نزار صابور، أو بولس سركو في اتجاههما، وذلك في محاولة بحث لإيجاد هوية سورية للوحة ملونة من كل تلك الملامح، و.. لإنشاء لوحة بكامل المعاصرة، لكن لعيون سورية لا زيف في ألوان حدقاتها. ذلك أن هذا القديم فيه حالات حسية غير متوفرة في الحاضر، حالات أكثر إنسانية في أماكن هي ملاذ للروح، هنا حيث تشرئب الروح في الأزقة العتيقة، و..هنا يولد الحاضر أيضاً يولد فناً، و يأتي الاتكاء على الماضي كذلك يأتي لتفسير الحاضر في أحيان كثيرة .

هذا الإغواء في المدن والأماكن العتيقة لم يأخذ الفنانين التشكيليين وحسب، بل كان يشدّ طول الوقت الكثير من الروائيين والسينمائيين، وصولاً للمشتغلين في الدراما.. إنه سحر الأماكن القديمة مرةً أخرى..!!

العدد 1105 - 01/5/2024