بلبل الشرق.. فريد الأطرش: تقاسيم على أوتار العود والقلب والحنجرة

لعله في نواميس الطبيعة ومشيئة القدر، ومن طبع غير قليل من البشر، أن يكون لكل شيء مقابل أو ضريبة، حتى لدى المحبين. ومن الندرة بمكان، أن نقع على من يعطي، من دون مقابل. بمن فيه، العشاق والزهَّاد والمتصوّفة، فهن وهم لا يعشقن ويعشقون.. ويزهدن ويزهدون.. ويتصوفن ويتصوفون، لوجه العشق والزهد والتصوّف. بقدر ما يفعلن ويفعلون، مقابل تقاضي متعة معينة. هي (ثمن) – إن صحَّ التعبير – ما تَقَدَّم، من عشق وزهد وتصوف.

تمتع (فريد)، (1914- 1974) بمواهب عدّة، قلما اجتمعت لسواه. إلى حدِّ يجعله أشبه ما يكون، بمثالٍ تطبيقي، لمصطلح (اسم على مسمى). بيد أنه في المقابل، دفع ضريبة ذلك، آهاتٍ ونُغَصاً وعذابات!

فرقة موسيقية كاملة

لوالدة (فريد) الأميرة (علياء المنذر) حفيدة النعمان، بنت جبل لبنان، تأثيرٌ كبير، إرضاعاً وتربيةً، على ما كان عليه (فريد) و(آمال)، من تَرَفُّع وتهذيب وطموح ورهافة إحساس. الصفات التي كانت تعرف عنها، إضافة إلى الغناء والعزف على العود، وهواية الموسيقى والأدب ومطارحتهما أحياناً.

كما كان لوالدهما (الأمير فهد الأطرش) ابن جبل العرب في سورية، ظلالٌ وأصداء، فيما انطبع عليه الولدان، من عزة نفسٍ وأُنفةٍ وشجاعة وكرم، وفيما كانا عليه من جمال – صوتاً وجسداً وحضوراً – فيه من الأم لمسةٌ تشاركيةٌ أيضاً.

لقد وشمت العلياء، بالحنيّة الباهظة، قلب الفريد وصوته وأصابعه. وتعهدته أيادِ كلٍّ من الفنانَين الأشهَرَيْن، الموسيقار (رياض السنباطي) وسميَّه لبناني الأصل، مصري الإقامة، الملحن والموسيقي (فريد غصن) صاحب لحن يا ريتني طير، أول أغنية مسجّلة إذاعياً لفريد. بما يلزم من بلورة الموهبة وتنميتها وصقلها. وصولاً إلى تقديمه في الإذاعة، عازف عودٍ، ومن ثمَّ مطرباً.

لئن تقلَّد الفريد في حياته الفنية (40 سنة) عشرين وساماً ونيشاناً، بينها وسام الأرز اللبناني ووسام الاستحقاق السوري. ووافقت منظمة اليونيسكو على طلب سورية، الاحتفال هذا العام (1915) بالذكرى المئوية لميلاد (الأطرش).

فقد أودع الفريد مكتبة الفن العربية قرابة (500 لحناً) و(37 فيلماً سينمائياً).. إضافة إلى فوزه بأربع مراتب فنية مرموقة. يعتز بها كل عربي غيور:

– كان أوّل عربي يفوز بجائزة (أبرع عازف عود في العالم)..

– أوّل موسيقي عربي، يدوّن اسمه في الموسوعة الموسيقية الفرنسية..

– أوَّل مَنْ أدخل الهارموني على الموسيقى الشرقية..

– وأوَّل مَنْ عرَّف السينما المصرية إلى الأوبريت.

ولا غرو بعدها، أن يصفه مدحت عاصم، الذي قدَّم له في البدايات، ثلاثة ألحان (أنا السعيد في غرامي.. كرهت حبك.. أفوت عليكي): أنه عازف من طراز خاص، جمع الحلاوة والرقة والقدرة في ريشة واحدة. أو يقول آخر ما مفاده: إن فريداً مع عوده يشكلان فرقة موسيقية كاملة.

قدَّم ووضع ما يخلِّده

إذا ما لفَّع الحزن أغاني الأطرش، وضرَّجت الآه جمال ألحانه. فمما لا شك فيه، أنه كان موضع ظُلم مُركّب، مُختلف المصادر والأساليب والأسباب:

ظُلم من قبل القدر، إذ تنكَّب صغيراً مسؤولية أكلاف الحياة، وقاسى طويلاً من أجل العيش والفن. سواء أثناء إقامة أسرته في لبنان، لمدة قصيرة بداية، أوفي مصر لاحقاً ودائماً..

يقول الأستاذ محمد السيد شوشة في كتابه، فريد الأطرش الذي أحبّ بلا أمل: من الأشياء التي يرويها فريد مُفاخراً بعصاميته وكفاحه، أنه اشتغل في الفترة الأولى من إقامته في مصر، عاملاً في محلاّت (بلاتشي) بالموسكي. يوصل على الدراجة الطلبات إلى المنازل.

كما جاء على لسان الناقد (فوميل لبيب)، في كتابه (نجوم عرفتهم): أن (فريد) درس ونال الشهادة الابتدائية، حين كان يتعلم الموسيقى نهاراً، ويغنّي في الإذاعات الأهلية مساءً.

ظُلم بتعرضه لذبحة القلب، في عز شبابه وعطائه، أكثر من مرة..

كما ظلمه القدر، حين تركه يقارع صروف الدهر وأعباء الحياة، وحيداً عازباً، محروماً من عناية الزوجة وعاطفة الأبوة.

يا سلام على حبي وحبك

غنَّى الأطرش معظم ألوان الغناء، العاطفية منها والشعبية والقصيدة والأوبريت والدويتو والطقطوقة. وترك بصمته عليها.

فقد بلغت (الطقطوقة) بفضله شأواً ناهضاً، وعاشت عصراً ذهبياً، بالتضايف مع موسيقاه وألحانه الضاربة، سواء منها التي غنَّاها هو، مثل (اشتقتلك)، أو (دقوا المزاهر يللا) التي كُرِّست كلازمة لا تضاهى في الأعراس والأفراح. أو التي كان يُهديها للزميلات والزملاء. ودرجت طويلاً على الألسن، وما زال بعض الذوَّاقة يذكرونها ويطربون لسماعها، حتى اليوم. كأغاني: على عيني يا علي، وع الصورة مضيلي، ويا دلع، لصباح.. بيع الجمل يا علي لسميرة توفيق.. وهزي يا نواعم لعصام رجي.. وع الكورنيش لطروب.. إلخ.

كما ترك لنا الأطرش أغان، تعدُّ من أنجح ما عرفه تاريخ هذا اللون الغنائي – إن لم تكن أنجحها – كدويتو (يا سلام على حبي وحبك)، مع شادية. الثنائية التي تطاول الكمال، فيما تبرعمه، من عفوية وعاطفية ورقة وفكاهية وخفة دم، معاً وبآن. يعيشانها فريد وشادية، بانسجام قلّ نظيره، يصعد بالمتلقي، إلى سماوات من انبهار وانشداه وانتشاء!

لقد توطّنت الموسيقى فؤاد فريد، وجرت أنغامها في دمه. إلى حدٍ باتت معه بالنسبة له، داء ودواء. فطرَّبت ألحانه آذان السمع فينا والحدس، وطرَّزت جُمَلُهَا الحركة في أغانيه والسكون، الأخير الذي برع فريد وانفرد في وضعه وتلحينه، سكنات فيما بين الكوبليهات.

أول أغنية وأغلى قبلة

إلى ما ناء به القلب المريض لفريد، من عشق للجمال، وشوق للأحبة. فقد آل على رقة شرايينه وتحنان شغافه، أن تتسع لمخلص حسٍّ عروبي، وصادق همٍّ فلسطيني. تُذكيهما، جذوة لا تنطفئ، لمحبة الوطن في سويداء ذلك القلب. والسيرة الذاتية للأطرش، في الفن والحياة، مُطرَّزة بأقوال وأفعال ومواقف، تؤكد ذلك.

بدءاً بأول أغنية له، في حفل أقامه أحمد زكي باشا – شيخ العروبة – وخصص دخله لمساعدة ثوار السويداء. حيث تبدَّت مواهب فريد – الذي لم يبلغ العشرين بعد – في هذا الحفل، حتى قيل فيه الشعر:

غنّى الفريد فأحكم الأوزانا

والعود فاض عواطفاً وحناناً

فكأننا في أرض مكة سُجّداً

وكأنه وحي الإله أتانا

يقول فريد في معرض حديثه عن هذه الحفلة: قدمتُ فيها أول عمل فنّي أشهرني بين الناس، وكنت حينها صغيراً ببنطلون شورت.. غنيت قصيدة من كلمات الصحفي السوري تيسير ذبيان. كان قد طلب أحمد زكي باشا من الأستاذ عبد الوهاب تلحينها، أذكر أن مطلعها:

حق الجهاد على الحرم

فرض على كل الأمم

فابنوا بأسياف الهمم

مجد العروبة بالقمم

مروراً بـ(أوبريت بساط الريح، الذي تألق فيه فريد مع عصمت عبد العليم. وكان الأول من نوعه لما انتظمه من تنويع وتلوين في الصوت والمقام والمشهد، والمقتطف التراثي، بين مقطع وآخر. متوِّجاً ذلك ومُتسلطناً بمواله الأبهى (يا دجلة أنا عشطان…)

حقاً كان بساط الريح وسيبقى إلى ما شيء له البقاء، مع أمثاله من إبداعات. خير شاهد وأنظف تأكيد، على أن الفن والفنانين – يجب ويمكن – أن يجمعا ما فرَّقته السياسة والسياسيون. ولم تكن بساط الريح (بيضة الديك) في وطنيات الأطرش. فقد تلتها (الله أكبر)، (شعبنا شعب الفداء)، (يا بلادي)، (المارد العربي)، (وردة من دمنا) وغيرها.

ولعل فلسطين كانت إحدى الجراح المفتوحة في قلب فريد، التي شاركته عمره. ولعلها أغلى قبلة، تلك التي طلبها مليونير من فريد، في إحدى الحفلات في دمشق أثناء كان يغني لفلسطين، إذ قال المليونير: أدفع ما يطلبه فريد، مقابل قبلة أطبعها على خدِّه.

وكان أن طلب فريد مليون ليرة. فقبَّلَ المليونيرُ الأطرشَ، وجيَّر الأخيرُ المبلغَ للمقاومة الفلسطينية. وسوى ذلك، كثيرة هي تبرعات فريد المخفيّة والمعلنة، للأفراد والمؤسسات، وبشكل خاص للمقاومة الفلسطينية.

ختاماً..

إذا ما كان الفقدُ كبيراً والحزن عارماً، برحيل فريد. فعزاؤنا. أننا عشنا في عصر فريد. بعض منا صادفه.. بعض صادقه.. بعض آخر حاوره.. وبعض رابع حاول ولم يسعفه الحظ، منهم كاتب هذه السطور. وذلك مما عليه، يحسدنا الأغراب والأعداء، يُغبطنا الأصدقاء والأولاد والأحفاد..

عزاؤنا: أن الفريد رحل لكنه لم يمت، فالعباقرة لا يموتون، وسيبقى فريد الأطرش على المدى، نغماً عربياً أصيلاً. يتمثله سدنة الفن في أربع جهات الأرض، ويطرب له عشاق اللحن في أجمع لغات المعمورة.

رفيق العمر

لا شك في أن المجال والمقال يضيقان، وتعتذر العبارة والمهارة، عن إحراز الدقة والإحاطة. لدى التحدث عن سيرة حياة وفن، قامة إبداعية باذخة، متنوعة المناقب والمناسك، كفريد الأطرش. بيد أن الحديث لا يستقيم، من دون العرض لـ(العود). رفيق عمره، وشريكه في انتصاراته وانكساراته وآماله وآلامه وبطولات أفلامه. (العود). الذي لم يعرف تاريخه، احتضاناً وانتشاراً وازدهاراً، كما عرف علي يديّ فريد.. ولم تلامس وتداعب وتهامس أوتاره، أصابعٌ عاشقةٌ، مثل أصابعه.. بل لم تشهد الموسيقى في تاريخها، عوّاداً وعوداً، صارا مضرب مثل، في السيادة والفرادة، كفريد وعوده!

العدد 1105 - 01/5/2024