إمبراطورية الجليد والحقيقة الصادمة

دغدت عواطف الكثيرين، والشباب خاصة، أضواء الحلم الأمريكي، وبريق الديمقراطية والفرص الناجحة والمال والشهرة، وفوق ذلك كله، يقين ساذج بشأن تزعم الولايات المتحدة الأمريكية للعالم، (بإرادة سماوية)، وبناء إمبراطورية (لا تغيب عنها الشمس) لقرن قادم على الأقل، حسب توقعات مستشاري الرئيسين الأمريكيين: الجمهوري ـ جورج بوش، والديمقراطي باراك أوباما.

وجرى توظيف شبكات عملاقة مصرفية واستخبارية وإعلامية و(فلكية) في الترويج لتلك المزاعم (اليقينية) على أنها حقيقة لا تدحض، كما نفذت قوات التدخل ا لسريع، ووحدات (المساعدة الفورية) غزوات وضربات وعمليات إنزال أو احتلال طويل الأجل، بحجة الدفاع عن (قيم الحرية والديمقراطية)، ومعاقبة الدول (المارقة وقوى الشر)، ودرء خطرها المتعاظم، وتهديداتها لمنجزات الحضارة الغربية، وبحجة توفير الأمن والاستقرار والازدهار والرفاه، لأن الشعوب ر(المصدقة) لسياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة تستحق كل ذلك، وأمثلة أفغانستان والعراق وليببيا والخليج غيض من فيض.

وخدمة لهذا المشروع (الإمبراطوري) الكبير وظفت أعمال فنية ضخمة في السينما والمسرح والغناء والأعمال الاستعراضية، وبرامج المسابقات والأزياء وملكات جمال مختلف الأعمار، وحتى الرياضة وبرامج الأطفال لعبت دورها في هذه الجوقة الخادمة لصعود الإمبراطورية الكونية (السعيدة).

ففي اغنية (قصة حب) يتردد لفظ (إمبراطورية) مراراً، وتؤديها مغنية ترتدي فستاناً قصيراً أبيض، وخلفها مشهد ثلجي ساكن، وتقول كلماتها: (أنا وأنت سنبني إمبراطورية للحب، شطر لي هنا وشطر لك هناك، لا ينازعنا فيها أحد، وإن كنت لا تبالي، فسأحارب من أجل ذلك مراراً وتكراراً) إنها إمبراطورية الأمريكي البيضاء السعيدة، وفضاؤها الساحر، إمبراطورية الأقلية الأوليغاركية المحظوظة.

وهذه الشبكات العملاقة التي تبث كماً هائلاً من المعلومات والمساعدات والتنبؤات والأفلام، والأغنيات المصورة (الفيديو كليب)، والإعلانات المثيرة، والأخبار العاجلة والخطب المديحة بعناية فائقة، تمارس تأثيرها في محاصرة العقول، وتعطيل قدرتها على التحليل والمقارنة والفهم، وفي تصنيع الحقائق، إذ تتحول هذه الأخيرة إلى أسرار تهدد (أمن الإمبراطورية)، ولا يجوز كشف القليل منها إلا بعد عقود.

لقد نسيت الليبرالية الجديدة منجزات الرأسمالية الصاعدة ودفاعها عن حقوق الأفراد والشعوب، واعترافها بالتفوع والتعدد الثقافي والحضاري، ودعواتها للشراكة من أجل بناء عالم ينتفي فيه الفقر والتمييز، وتزدهر فيه قيم العدالة والتكافل.

وتناست هذه الليبرالية في لحظات استقوائها وجبروتها وسباقها المحموم للتسلح بصنوفه الفتاكة والمحرمة، أو في لحظات هزائمها السياسية والعسكرية (في فيتنام وكوريا وكوبا والشرق الأوسط)، أو في لحظات جراحها وفضائحها (في 11 أيلول 2001 أو كشف وثائق ويكيليكس) كل ما بشر به أسلاف الأمة الأمريكية أوائل القرن العشرين من قيم وحقوق.

وأيقنت أن (زمنها الإمبراطوري) قد جاء، وما على إداراتها العتيدة سوى انتهاز الفرصة

لكن انكشاف الآثار الكارثية لهذا النزوع الإمبراطوري على العلاقات الدولية وعلى فرص التنمية، وعلى مناخات الاستقرار المنشودة يظهر بالسرعة نفسها التي تتزايد فيها المطامع، وتفرض فيها ديكتاتورية مستقوية شروطها ويقينياتها وإملاءاتها على المجتمع الدولي كله، كما تستخدم الحرب وسيلة لتوحيد المجتمع وإقناع الناس بوجود تهديد وجودي وعدو خطير يقتضيان دعم سياساتها وحروبها الاستباقية، وإغلاق الطرق في وجه أي انتقاد أو اعتراض أو حجة ضدها.

وقد سخر الفيلسوف البريطاني برتراند راسل من السياسات والطموحات الإمبريالية للهيمنة، ودان الحروب وكوارثها المفزعة، واقترح تشكيل حكومة عالمية تشترك فيها الدول جميعها، قادرة على تأمين العدالة. لكنه أودع السجن ـ وهو الشخصية الثقافية المعروفة ـ بسبب كشفه طبيعة الحروب التي تشارك فيها بلاده في أماكن عديدة خارج حدودها.

وتستطيع المنظومات الإعلامية والدعائية الضخمة أن تختلق المبررات والضرورات لشن الحروب، (دفاعاً عن قيم المجتمع الحر)، وحماية (للمجال ا لحيوي والأمن القومي)، وتخليصاً للبشرية من (العصاة والدوشمان والمتطرفين ومثيري الشعب وأعداء الحضارة الإنسانية)، وتستطيع هذه المنظومات (شيطنة) كل عمل دفاعي مشروع، ومحاصرة كل رأي موضوعي مدعم بالحجج والوثائق يكشف مرامي الحرب وآثارها المدمرة، واستلاب حق الانتفاد والمناقشة في موضوعات تمس (المصالح القومية)، ويجري تقييد حق الاحتجاج والإضراب، وتعطيل الصحافة الناقدة، ويبرز وجه ديكتاتورية الأليغاركية الصناعية والعسكرية خلف غلالة (الديمقراطية الزائفة).

وأكبر عملية تزييف لإرادة المجتمع الأمريكي، وتضليل الرأي العام الغربي والدولي كانت حربا فيتنام والعراق، فالفيتناميون شعب مسالم أراد أن يعيش بكرامة، ورأت الإدارة الأمريكية هذا الخيار المشروع تهديداً لأمنها القومي، وشنت حرباً طويلة مدمرة ضد الشطر الشمالي منه، وأقامت قواعد عسكرية ضخمة في المنطقة، وخسرت أمريكا في هذه الحرب أكبر عدد من الجنود بعد الحرب العالمية الثانية، وغدت سمعتها وهيبتها (وهي الدولة العظمى) في الحضيض قبل أن تضطر لمغادرة ذلك البلد الصامد مهزومة ومرذولة.

وقد عبر المسرحي البريطاني الساخر بيتر بروك عن انكشاف الحقيقة في مسرحيته (أس أند يو أس) نحن والولايات المتحدة، في مشهد يظهر فيه جندي أمريكي مصاب يقول لزميله ومعالجه:

صدمتني الحقيقة ذات نهار/ ومن يومها وأنا أسير على هذا النحو/

بلل شفتي بالويسكي/ واملأ أذني بالرصاص المصهور/ وضع ساقي في الجبس واحكِ لي الأكاذيب عن فيتنام!

وأكاذيب الإمبريالية بشأن عمليات الغزو أو الحصار والتعذيب والسجون السرية، أو بشأن عمليات التدخل السريع وتهديد الاستقرار في معظم مناطق العالم، أو بشأن تدريب فرق الموت ومجموعات الاغتيال، أو بشأن عمليات التلصص والتنصت على هواتف الرؤساء والقادة، أو بشأن عمليات الاحتيال والإفلاسات المصرفية والأزمات الاقتصادية والتلاعب بأسعار العملات الأجنبية أو بأسعار النفط، وهي العمليات التي جرى نفيها بشدة من جانب البيت الأبيض الأمريكي، ثم افتضح أمرها كلها، وجرى الاعتراف ببعضها عبر لجان الكونغرس، والإشارة إلى أن مثل هذه العمليات المنافية للقيم الإنسانية والأمريكية ألحقت العار بسمعة الإدارات الأمريكية التي أمرت بتنفيذها أو تسترت عليه.

واحتكار أقلية في بلد واحد للثروات الهائلة والأسلحة الفتاكة وللمعلومات ووكالات الأنباء، ومحاولة هذه الأقلية استغلال ذلك كله للخروج على قواعد القانون الدولي وتعطيل المؤسسات الأممية، أو الخروج على قرارات الأمم المتحدة يؤدي إلى نشوء ديكتاتورية عاتية، توظف العلم والتقنيات الحديثة لفرض سطوتها، وضمان عدم مساءلتها عما ارتكبت من جرائم ومجازر ماضياً وحاضراً، كما يجعل إبعاد تهديداتها وتجاوزاتها وسياساتها الخطيرة بالغ الصعوبة.

وتستطيع الأطراف الدولية والإقليمية والدول التي تأذت من السياسات والرؤى الأنانية، ومن النزوع الإمبراطوري الأمريكي مثل دول مجموعة بريكس ودول محور المقاومة في الشرق الأوسط، وعدد من دول أمريكا الجنوبية وأفريقيا أن تؤمن تضامناً يؤمن مصالحها ويعيد التوازن إلى العلاقات الدولية، ويمنح انحدار البشرية إلى مغامرات خرقاء وحروب عبثية وكوارث معممة.

العدد 1105 - 01/5/2024