مأساة عين العرب

معركة عين العرب، التي تدور في هذه الأثناء في شوارعها اشتباكات عنيفة بين سكانها ومقاتلي التنظيم الإرهابي (داعش)، تختصر أزمة الهوية والانتماء التي يعاني منها سكان الشرق الأوسط منذ انهيار الدولة العثمانية حتى الآن. فما بين انتماء سكانها جغرافياً للجمهورية العربية السورية، ومعظمهم ينتمي إثنيّاً للقومية الكردية ودينياً للإسلام، وعقائدياً للفكر اليساري، تحولت مدينة عين العرب إلى نقطة تقاطع في مشروع إعادة رسم حدود المنطقة، بعد انتهاء مفعول اتفاقية سايكس – بيكو، وبدء الحديث عن إعادة تقسيم المنطقة وفق قواعد جديدة.

من هذا المنطلق، تمثّل معركة عين العرب أول اصطدام جدّي بين مشروع الدولة الإسلامية التي يسعى تنظيم (داعش) الإرهابي لتأسيسها في المنطقة، والإدارة الذاتية الكردية في مدينة عين العرب شمال سورية، والتي أصبحت تُشكّل عقبة كبيرة بوجه (داعش) الذي يُحاول إلغاء جميع الهويات الفرعية في دولته التي يحاول إنشاءها مقابل هوية (مواطن في دولة الخلافة)، ما يجعل هذه المعركة معركة (أكون أو لا أكون) بين مشروعين متنافرين.

المستوى الثاني للمعركة أنها تشكل أول اختبار جدي لمشروع تُركيا الكبرى التي يُبشّر بها العثمانيون الجدد في أنقرة، وحلم الدولة الكردية التي يسعى الأكراد إلى تأسيس قواعدها في مناطق وجودهم. فالأتراك الذين أصيبوا بالذهول بعد أن تغيرت قواعد اللعبة في شمال العراق إثر تدخل الولايات المتحدة الجوي، وقوات الحرس الثوري على الأرض لصد هجوم داعش على أربيل، يخشون من أي تنسيق بين طهران – واشنطن، يؤدي إلى تقوية الأكراد عسكرياً، وبذلك تبقى أنقرة على هامش الأحداث، ما دفعها إلى دعم (داعش) في هجومه على عين العرب، على أمل  إسقاطها مع المشروع الكردي في سورية، قبل أن تتراجع قوة (داعش) تحت ضربات قوات التحالف الجوية، أو قبل أن يضطر إلى الانكفاء حفاظاً على قواته.

المستوى الثالث من المعركة يوضّح الأزمة الفكرية والعقائدية التي يعانيها (الإسلام السياسي) في المنطقة منذ بداية ما يُعرف بالصحوة الإسلامية في القرن المنصرم. فالأكراد خلال هذه الفترة تعرضوا لقمع شديد من دولتين رفعتا، في سبيل تحقيق مكاسب سياسية داخلية وخارجية، راية (الإسلام السياسي): العراق إبان فترة حُكم صدام حسين وخصوصاُ بعد كارثة احتلال الكويت، وتركيا التي دمجت القومية والمذهبية في هويتها الوطنية. وجاءت معركة عين العرب لتُبيّن أن الأكراد يحاربون باللحم الحي هذا الوحش الذي صنعته الغرف السرية في بعض الدول الإقليمية بهدف تحقيق مخططاتها الاستراتيجية في المنطقة. وبعدما اكتفت المؤسسات الدينية الرسمية في المنطقة بالشجب والتنديد والتحّذير من هذا الفكر، بدأت التقارير الرسمية تقرع ناقوس الخطر من هذا الفكر الذي بدأ يلقى التأييد من فئات كثيرة من سكان المنطقة، مثل الخليج ولبنان وتركيا وبعض المناطق في العراق وسورية.

أخيراً، قد تؤدي النتائج التي ستُسفر عنها هذه المعركة إلى تهديد النسيج الاجتماعي في شمال سورية. فالمعركة التي نشبت بعد أن شكّل الأكراد مع ما يُسمى (المعارضة المعتدلة) غرفة عمليات بركان الفرات بهدف التصدي لهذه المجموعات، ما سيجعل من عدم الثقة هو العنوان الرئيسي الذي سيحكم العلاقات بين سكان شمال سورية.

مما سبق، نرى أن الأكراد قد بدؤوا بالظهور على المسرح السياسي الإقليمي في الشرق الأوسط وهذا ما قد يكون استثماراً مهماً للقوى الكبرى، للأسباب التالية:

– اشتراكهم في الانتماء الديني مع سكان المنطقة.

– تمركزهم في أغنى مناطق الهلال الخصيب.

– وجود خلافات عميقة مع أكبر مكونين قوميين في المنطقة.

– تقديمهم صورة متطورة عن المجتمع الشرقي وقراءة متطورة للإسلام، بعد أن أثبت النموذج التركي فشله وقدم نفسه بصورة الذئب المفترس الذي يُريد ابتلاع المنطقة.

العدد 1104 - 24/4/2024