في ذكرى رحيل الروائية والناقدة الأدبية المصرية رضوى عاشور

أي حياة خصبة تركت وراءها، هذه المرأة التي عملت على كل الجبهات، زوجة وأماً ومناضلة لا تستسلم، فأمسكت حياتها من كل أطرافها!

في فكر رضوى  وقلمها وسيرة حياتها نرى المستقبل يرفع رأسه من الواقعية المرة، يتكاتف عليك كما حبات الندى في أرض عطشى يأخذك إلى حيث ينبت زمن أفضل وبلاد أقل ألماً وإيلاماً.

ما كان لرضوى عاشور أن تختار هذا الطريق لولا ثقافة تجاوزت دروس الأدب وجمالياته، وإن لم تخرج عن روح الأدب الأفرو ـ آسيوي الذي اختارته موضوعاً لأطروحتها. ولولا شخصية صلبة جعلت منها مناضلة ملتزمة بقضايا الحرية والعدالة، بمواجهة الاستبداد والفساد، ولولا فكر يساري متجاوز فتح عقلها على آفاق أرحب.. وصوب نظرتها إلى الواقع وقضايا الشعوب.

وسيظل هذا الفكر معبر المثقفين إلى القضايا المحقة في العالم. فالإنسان موقف وهذا ما عاشته الراحلة وأخلصت له.

كانت تحب الكتابة بشكل يجعل سؤال: لماذا؟ يبدو غريباً وغير مفهوم. حددت هويتها بدقة متناهية: (أنا امرأة عربية من العالم الثالث، وتراثي في الحالتين تراث الموءودة، أعي هذه الحقيقة حتى العظم مني وأخافها إلى حد الكتابة عن نفسي، وعن آخرين أشعر أنني مثلهم أو أنهم مثلي.

ولدت رضوى عاشور عام 1946 في بيت يقع على النيل في جزيرة نيل الروضة، وقضت طفولتها المبكرة في شقة بالمنطقة نفسها.

التحقت بمدرسة فرنسية حيث معلمات يُدْعين: مدام ميشيل، ومدموازيل دنيز، وغيرهن، وتلميذات يحملن أسماء: فرانسواز، وميراي، وأنجريد. وكانت تعامل مع رفيقاتها الفاطميات على أنهن أقل..

تقول: (لم يتم قول ذلك أبداً في كلمات، ولكنه كان يسري في المكان كالهواء الذي نستنشقه دون أن نراه أو نعي حتى وجوده).

في تلك الفترة أو بعدها بقليل بدأت الكتابة، قصائد ركيكة، مكسرة الأوزان، قصص ساذجة تترجم الأفكار إلى شخصيات قرأت الكثير من الأشياء الصالح منها والطالح.

وعندما أصبحت في المرحلة الثانوية، كانت تشعر بالانبهار أمام قدرة الإنسان على إنجاز كتاب أو لوحة.

وكانت اللقاءات مع بعض الكتاب مثيرة وباهرة، لا لشخصياتهم، بل من فعل الكتابة التي تضفي هالة على صاحبها. فلم تكن تملك في تلك السن إلا التوقف مأخوذة.

التحقت بكلية الآداب ـ جامعة القاهرة لدراسة الأدب الإنكليزي، فأحبت النصوص المقررة وغير المقررة وكانت في السابعة عشرة من عمرها، ولكن ما أرهقها في هذه النصوص ضوءها الكاشف لضآلة إمكاناتها كما كانت تشعر. ولكن ما حسم الأمر لفترة طويلة أنها قرأت قصصاً قصيرة للكاتب الروسي المعروف تشيخوف. وكأن شيئاً ما حدث لها: سقوط حجر ثقيل عليها أو كأن سيارة صدمتها بقوة. ورأت أنه لا يصح ولا يجوز ان تواصل الكتابة. فقررت التوقف عن المحاولة وجاء قرارها قاطعاً كمقصلة.

شاركت عام 1969 في مؤتمر الأدباء الشباب بالزقازيق وكان زملاؤها على قدر من الرحابة كما تصفهم، فاعتبروها واحدة منهم.. في هذا المؤتمر قدموا بشائر تشي بموهبتهم، ولم تكن قد قدمت شيئاً تقنعها قيمته.. وعادت الكتابة تلح عليها من جديد فتقمعها وتكتب صفحات جديدة وتمزقها..

أخيراً تركت محاولات الكتابة وأنكرتها، وانهمكت في الدراسة الأكاديمية، أعدت الماجستير والدكتوراه وأنجزت بعض الدراسات النقدية.

عام 1980 تعرضت لأزمة صحية ممتدة، فأمسكت القلم وبدأت في كتابة مشروع سيرة ذاتية تغطي تجربتها الحياتية من عام 1946-1956.

ثم اكتشفت أن الخيوط التي شكلت وجدان الطفلة وتلك التي نسجت تاريخ تلك الفترة أكثر تداخلاً وحبكة مما تستطيع كتابته، وخوفاً من السقوط توقفت عجزاً وخوفاً.

هكذا تعثرت في البدايات، وكان كتاب (الرحلة.. أيام طالبة مصرية في أمريكا) مدخلاً لكتابة إبداعية جميلة.

كانت مادة (الرحلة) جزءاً من سيرتها الذاتية، فقد رأت في فضائها الفسيح إمكانات هائلة للكتابة، فأكسبها هذا شيئاً من التصالح مع النفس، كان ذلك في عام 1981 وبعد ذلك بدأت بنصوص روائية طويلة. فها نص روائي بعنوان (حجر دافئ) ولم يكن مشروعها للكتابة عن أشخاص بل عن حقبة ومكان. وكذلك (مصر في السبعين). وتلا ذلك العديد من الروايات والقصص والدراسات النقدية وغيرها.

منذ كتابات (أيام طالبة مصرية في أمريكا)، وحتى كتابة سيرتها الذاتية الأخيرة (أثقل من رضوى).

 وما بين السيرتين نتلمس شفافيتها المتوارية خلف الحكايا التي تضمنتها رواياتها، وشخصيات هذه الرواية.

فنقرؤها في شخصية أبي جعفر الوراق في (ثلاثية غرناطة) لوحة لثلاثية من أروع ما شهده أدب الرواية عند العرب.

وفي شخصية حفيدته سليمى وزوجة أخيها مريمة..

نقرؤها في شخصية الراوي ذي الأعوام الخمسة والستين، والذي سمى نفسه (الناظر) في (قطعة من أوربا)، ونقرأها في (رقية الطنطورية في روايتها الطنطورية).. إلخ.

لقد صالت رضوى عاشور وجالت بين الماضي والحاضر والمستقبل ممسكة بالزمن العربي بكل أبعاده، مقاومة تهديدات الحاضر ومخاطره، سواء في كتاباتها الأكاديمية أم الإبداعية المكتوبة بالعقل. ما دام على الأدب أن يساعد على معرفة الإنسان.

رضوى والقضية الفلسطينية – رواية (الطنطورية)

حكاية عائلة كانت تعيش في أمان وانسجام في فلسطين، إلى أن جاء عدوان الطامعين، وتآمر الدول، وخذلان ذي القربى، فاقتلعها من أرضها كما اقتلع سواها وشتّت الجميع، فعبرت العائلة من فلسطين إلى الأردن فسورية، فلبنان حيث استقرت.. هذا هو أصل الرواية وهو كما يبدو ليس أصلاً لحكاية عائلة بعينها، ولا قرية محددة، بل هو وطن بكامله، لأن فلسطين ليست جغرافياً وحسب، بل ناس وأجداد واعياد وحكايات وذكريات، ولأن الطنطورية ليست قرية في فلسطين، بل هي فلسطين الحية بأهلها، العتيقة بتاريخها، عتق البجعات الملونة التي كان أبناء الطنطورة يجدونها محفورة على حجارة أرضهم.

فالرواية سيرة ذاتية، لكل أسرة فلسطينية مهجرة وربما لكل شعب مقتلع الجذور على وجه الأرض. كما كتبت رضوى عاشور عن مخيم عين الحلوة في جنوب لبنان، ما لم يكتبه سواها.. من وصف دقيق مذهل للأزقة الضيقة في المخيم. وطبيعة الحياة التي تجري فيه.

والسؤال كيف تمكنت رضوى عاشور المصرية الأصيلة أن تروي لنا عن حارات الطنطورة وبيوتها وأهلها ومزارعها وأشجارها وشاطئها وهي التي كانت طفلة في سنواتها الأولى يوم تحولت الطنطورة إلى أنقاض، وكيف تمكنت من معرفة الأزقة في مخيم عين الحلوة، قالت رضوى مراراً: إن ذلك ما كان ليكون لولا رفيق العمر: مريد البرغوثي. ورفيق العمر من أبناء دير غسانة، من كبار المناضلين الفلسطينين بصمت، في الشتات وفي المنفى، ومن كبار الشعراء العرب الطليعيين المجددين.

وعندما كانت تخضع للعلاج في بلاد الغربة، كانت لا تفكر إلا بالعودة إلى مصر، مصر التي هي في لحظة ذاك أكثر من وطن، مصر الميدان والثورة، تريد أن تعود لتنجز كتابها (أثقل من رضوى)، الكتاب البالغ الجمال والثراء، والذي يحمل الألم التاريخي الذي ما زلنا نعيشه..

في هذا الكتاب حكاية هند.. الطالبة الجامعية، أنثى قرية أكياد بالقليوبية. الأنثى المهانة التي اقتلع عملاء القمع ثيابها وعرّوها أمام الناس وداستها أرجلهم، وكأنها حشرة. ومن على كرسيها المتحرك، تكرر بأنها ستواصل المشاركة في الثورة والنزول إلى الميدان وستعود إلى كليتها.

في كتابات رضوى تتزامن موضوعات عدة وتتعاقب، وتدور، ورضوى حاضرة في قلب دائرة الموضوعات هذه بحيث تدور حولها الحكايات: من مواجهتها رئيس جامعة عين شمس، وتصديها لنظام الجامعات المصرية ومطالبتها باستقلاليتها.

تريد بلورة موقف روائي نقدي لواقع العلاقات القائمة في الجامعة وحاجته إلى التغيير الذي غدا ممارسة ثورية يشارك فيها كل الشباب والشابات الذين نزلوا من الجامعات إلى الشوارع. هي الثورة، من أجلها توظف كما تقول: جميع الطاقات المكتسبة والموروثة والتقليدية والمستحدثة، والشعبية وغير الشعبية..

الثورة غير المقطوعة من شجرة، ولا أتت من فراغ..

شهداؤها مسنودون بقوة على تراث ممتد من أوزوريس الذي بكته امرأة حتى فاض النيل، وشهداء المسيحية والإسلام الأوائل وصولاً إلى آبائهم المباشرين على مدى تاريخنا الحديث.

في مختلف كتاباتها تتحدث رضوى عن: وداعة أبطالها نساء ورجالاً التي تقلق الأقوياء، غلاظ القلوب، والأيدي، فأخلاقهم، أصلب من هراواتهم وكراسيهم، وهدوءهم أبلغ أثراً في النفوس من أبواقهم.

ترى رضوى أن القمع الظاهر والباطن واحد في جوهره ومصيره. كاتب التقارير الواشي بزملائه الذي يلدغك كالحية دون جلبة أو صوت، والبلطجي المفتول العضلات الذي يرهبك بنظراته وصوته العالي، قبل أن يخرج السكين ليطعنك به من الخلف، كلاهما مهزوم، أما هي فتراهم وتشفق عليهم من قبحهم، ومن عبثية مظاهر القوة فيهم. يعلمون وإن أنكروا كم هم مؤقتون كالجروح والأمراض. والآخرون باقون كالقيم المطلقة.. وتقول رضوى:

(إن ربيع العرب الذي ذبل بعضه قبل أن يزهر، أزهر في داخلها زهراً سينمو في كل منا إذا اشتقنا إلى عطره).

في كتاباتها تضيء الأمل فتلتقي بشخصياتها الحية تجوب شوارع كل مدينة عربية بحثاً عن الحياة. شباب يملؤهم احتمال  آخر ليتوجوا مسعاهم بغير الهزيمة، ما داموا قرروا ألا يموتوا قبل أن يحيوا.

(إن استحضار كاتبة روائية بمستوى رضوى عاشور التي هي من أبرز الروائيات والناقدات العربيات في مثل هذه الأيام هو رمز للوفاء، الوفاء للجمهورية، والمقموعين في العالم.

الوفاء لوطنها وعروبتها.

تحية من القلب لرضوى الراحلة!

ستبقى دائماً فائقة الحضور بيننا

 

المرجع الرئيسي:

الندوة الأدبية التي عقدها المجلس الثقافي للبنان الجنوبي ـ في بيروت 5 شباط 2015.

ـ رواية الطنطورية ـ 2010.

أثقل من رضوى. مقاطع من سيرة ذاتية2013.

ـ رواية (حجر دافئ) 1985.

ـ رواية غرناطة ـ دار الهلال، القاهرة 1944.

 

رضوى عاشور

ولدت  في القاهرة عام 1946 نالت الماجستير في الأدب المقارن من جامعة القاهرة عام ،1972 ثم الدكتوراه في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1975.

ـ عملت أستاذة في قسم الأدب الإنكليزي في جامعة عين شمس 1972 حتى عام 2014. عضوة لجنة الدفاع عن الثقافة القومية ورئيسة تحرير كتاب المواجهة، عضوة اللجنة الوطنية لمقاومة الصهيونية. عضوة مجموعة 9 مارس لاستقلال الجامعة. عضوة الهيئة الإدارية في مؤسسة (نور) لدراسات وأبحاث المرأة العربية.

ـ عضوة هيئة التحرير في (موسوعة الكاتبة العربية).

ـ توفيت في القاهرة في 1 كانون الأول 2014.

أعمالها النقدية والإبداعية:

1ـ الطريق إلى الخيمة الأخرى (دراسة عن أعمال غسان كنفاني الأدبية) دار الآداب، بيروت  1977.

2ـ جبران وبليك (دراسة مقارنة باللغة الإنكليزية)، الشعبة القومية للأونيكسو ببيروت 1980.

3ـ التابع ينهض (دراسة عن الرواية في غرب إفريقيا) دار ابن رشد ـ بيروت 1980.

4ـ الرحلة، أيام طالبة جامعية (نص ـ سيرة) دار الآداب، بيروت 1983.

5ـ حجر دافئ (رواية) دار المستقبل العربي القاهرة 1985.

6ـ رأيت النخل (قصص) مختارات، فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب. القاهرة 1987.

7ـ خديجة وسوسن (رواية) دار الهلال، القاهرة 1989.

8ـ سراج (رواية) دار الهلال، القاهرة 1992.

9ـ غرناطة (رواية) دار الهلال القاهرة 1994.

10ـ مريمة والرحيل (رواية) دار الهلال، القاهرة 1995.

11ـ أطياف (رواية) دار الهلال القاهرة، 1999.

12ـ تقارير السيدة راء (قصص) دار الشروق 2001.

13ـ قطعة من أوربا (رواية) دار الشروق، القاهرة 2003.

14ـ فرج (رواية) دار الشروق القاهرة 2003.

15ـ الطنطورية ـ دار الشروق القاهرة 2008.

16ـ أثقل من رضوى (مقاطع من سيرة ذاتية)، دار الشروق، 2013.

العدد 1104 - 24/4/2024