غونتر غراس.. أيقونة الأدب الألماني المختلف المتعدد والمثير للجدل!

غونتر غراس أديب ألماني متعدد، فهو رسام وشاعر ومسرحي ونحّات وفي هذا المركب من تعدد مواهبه، كان نسيجاً ألمانياً خالصاً لكنه الأكثر جدلاً فيما عاشه وكتبه وتجلى فيه إبداعه، فقد ولد في مدينة داينستنع عام 4192_ وشارك في الحرب العالمية الثانية مساعداً في سلاح الطيران الألماني، وبعد انتهاء الحرب عام ،1946 وقع في أسر القوات الأمريكية، إلى أن أطلق سراحه. ولعل هذه الحقيقة ضاعفت يوماً ذلك الجدل حول شخصيته، لكن الأدلّ يبقى في رحلته الإبداعية، بوصفه رجل التجاذبات الفكرية والسياسية والثقافية في الحياة الألمانية، وشاهد سجالاتها وراصد تغيراتها (كانتفاضة المثقفين في ألمانيا الشرقية عام ،1953 والاحتجاجات الطلابية عام 1968)، والمنخرط في قضايا سياسية واجتماعية ستترك أبعد الأثر في مدوناته الروائية والإبداعية الأخرى.

ولعل ذلك ما شكل مهاد روايته (طبل الصفيح) التي نُشرت عام 1959 وحازت جائزة نوبل للآداب، وهي جزء من ثلاثية داينستنغ (القط والفأر، وسنوات الكلاب). وتميزت أعماله بالجدية وبمناوشتها للمسكوت عنه وإيقاعها اللاذع في سخريته، لكن اللافت في أسلوبه اعتماده على السرد العربي القديم، حسبما أكد هو في غير مناسبة، وهكذا تواترت أعماله الأخرى: (مئوية، مشية السرطان، تخدير موضعي، الجرذ)  وغيرها من الأعمال التي رصد فيها تغيرات سياسية واجتماعية وثقافية وساءل فيها قضايا أخلاقية وفكرية في ألمانيا.

وذروة مواقفه تجلت في إشادته بالخبير النووي الصهيوني (مردخاي فعنونو)،  فأغضب (إسرائيل) وأعلنت صحيفة (بيلد ام سونتاغ) أن ما قام به الشاعر الألماني غونتر غراس هو استفزاز جديد، فيما ذهبت صحف أخرى إلى القول: (لم يقل غراس إلا ما يعرفه الجميع). وصار ينظر إليه تالياً بوصفه معادياً للسامية، لكن ذلك الموقف الأخلاقي من (إسرائيل) جعل الرجل في قلب أدوار سياسية وثقافية صاخبة وأكثرها احتجاجه، بصفته يسارياً مستقلاً على ترحيل الأكراد، وتضامنه مع ضحايا العمل القسري في عهد النازيين نصيراً لقضايا حقوق الإنسان ورافضاً  لمنطق الحروب، وتشكيله منظمة لمساعدة الغجر في أوربا.

في سيرة غراس المتعددة والمثيرة للجدل حقاً بما تعالقت به من سيرته الذاتية، وما انطوت عليه من انتقادات حادة في الأوساط الألمانية العامة نتيجة انتقاده (إسرائيل) كان أيضاً بسبب قصيدة ناقدة لها، فقد اعتبرها قوة نووية تهدد السلام الدولي الهش بطبيعته، وأكثر من ذلك اتهامه المستشارة الألمانية (أنجيلا ميركل) بالجبن السياسي، فإذا كان من أغضب (إسرائيل) حقاً فهو من تماهى مع عوالمه السردية بفطريتها وبإشكالياتها التي انفتحت في متونها على أسئلة الواقع وأسئلة الحياة والوجود والفكر والإنسان، ليشكل انعطافة في تاريخه السياسي المترع بالاختلافات، لا سيما ماضيه النازي وانخراطه في كتائب القتل الهتلرية (سلاح إس إس).

غونتر غراس هو من رأى أن الأدب هو الذي يمد الجسور إلى الآخرين ويربط الشعوب بعضها ببعض، فيجعلنا نشعر بعاطفة جياشة إزاء الآخرين، في هذا المستوى كان غراس الشاعر يكتب عن المعاناة الإنسانية التي تتجاوز الثقافات والأديان، وقد كتب في قصيدة له (دردشة حول الطقس): (فقط إلى الخلف، ولكن أين هو الخلف؟ أولئك الكثيرون يموتون جوعاً في مكان ما).

ويحمل ديوانه (الأسئلة) ذروة شعره السياسي وهو يتميز على مستوى الخطاب بالمباشرة، والعمق في آن معاً، يقول غراس: (من يتحمل التناقض هو بهلوان يغير العالم، القصيدة لا تعرف الحلول الوسطى، أما نحن فنعيش على الحلول الوسطى)! وأكثر ما أضافه كان في ما كتبه في حوار رجل أخلاقي وشاعر بهلواني، وعنده أن القضايا لا تتجزأ فهي تتكامل بشكل أو بآخر، انطلاقاً من أولى مدوناته الشعرية (بعث الحياة) التي تكثر فيها مفردات (الحذاء، الخنفسة، خزانة الملابس…) وفي هذا السياق كانت قصيدته (خيال المآتة) إرهاصات لروايته ففيها يتساءل هل خيال المآتة حيوان… ثدي يتكاثرون عن طريق تبادل القبعات ليلاً؟.

غونتر غراس تجتمع في أدبه سمات الرفض والبحث عن بدايات جديدة بوساطة الخبرات، للذهاب إلى الحياة بتجريبية باذخة، فهي في المقام الأخير جملة خبرات، وهو الذي وقف موقف المتشكك أمام ما لم يلمسه ويتذوقه.

غونتر غراس كاتب واسع الخيال وصاحب لغة موحية غزيرة الصور في شعره، كما في إبداعه المختلف، شأنه شأن آباء الرواية الألمانية الذين دخلوا الإبداع من باب الشعر الضيق وليس من باب الرواية فقط، فقد ظل اسمه كاتباً ومفكراً وإنساناً في زمن تموت فيه الإنسانية، وغراس المخضرم في رحلة إبداعه وسيرته الذاتية والفكرية سيبقى محرضاً للأسئلة الكبرى، على مستوى خطابه الشعري والروائي في آن معاً، وأكثر من ذلك مواقفه المختلفة من العالم.

هو من قال ذات يوم: نريد أن نفتح فمنا…. ذلك الرافض للتقليد والباعث لحساسية جديدة في ثلاثيته (طبل الصفيح) بسرديتها المركبة والمغايرة في محكيها الروائي المتعالق بالشرط الإنساني، كما في ثلاثيات كلاسيكية عرفها الأدب العربي، من مثل ما أنجزه الأدباء العرب محمد ديب، الطيب صالح،  ونجيب محفوظ.

غونتر غراس في روايته الأخيرة التي ذهب إليها (الغياب) هو من ترك في مدوناته ذلك السؤال القلق والذي جهرت به مسرحياته (الطهاة الأشرار، الفيضان) الضعف: حيلةً أم قدراً؟ ذلك ما فاض به حواره ما بين رجل أخلاقي وشاعر بهلواني.

العدد 1104 - 24/4/2024