انتصارات الأبنودي وانكساراته

هل هي مصادفة أن يموت عبد الرحمن الأبنودي في ذكرى رحيل شاعر مصر الكبير صلاح جاهين؟!

صلاح جاهين الذي شكّل مع الأبنودي وبيرم التونسي وفؤاد حداد مربع شعر العامية في مصر العربية.

امتاز شعر الأبنودي ببساطة التعبير وعفوية الأداء، فجاء مثالاً يحتذى في عمق البساطة وبساطة العمق، والعناية بسرد التفاصيل الصغيرة التي تتجلى فيها أهم وأعقد القضايا الوطنية والاجتماعية والهموم الإنسانية.

الأبنودي صوت الجماعة بكلّ ما فيها من مخزون تاريخي مشبع بالأحزان وآلام المخاض وأحلام المستقبل المغمسة بعرق العمال والفلاحين وسائر المضطهدين، وبقدرة أجهزة القمع المختلفة على مصادرة أحلام البسطاء من الناس. فإذا كان صلاح جاهين شاعر أوجاع الوطن، فالأبنودي شاعر أحزانه وآلامه وقدرة أبنائه على التحدي.

حاول الأبنودي بتجربته الشعرية المديدة بالعامية المصرية أن يخصّب السياسة بالأدب، وأن يلقح الفكر بالتاريخ، وأن يوحد بين الفن والثورة، فمن منا لا يذكر ما غنّاه من كلماته مطرب الثورة في مصر عبدالحليم حافظ من أغنيات ملتهبة، كأغنية (عدّى النهار والمغربية جاية) التي كانت ردّاً معنوياً وعزاءً نفسياً وأملاً منتظراً على هزيمة ،1967 ومقدمة لحرب الاستنزاف التي مكّنت الجيش المصري ملتحماً مع شعبه من عبور هزيمة حزيران إلى مشارف تشرين، وأغنيات (ابنك يقول يا بطل) و(أحلف بسماها وترابها)؟

وكيف يمكن أن ننسى صوت شادية وهي تغني (ضبوا الكراريس)، بعد العدوان الاسرائيلي على مدرسة بحر البقر في الريف المصري؟

(الخال) الصعيدي، كاتب السيرة الهلالية، الذي زيّن شعر العامية المصرية بأكثر من عشرين مجموعة شعرية منها: (جوابات حراجي)، (القط)، (أنا والناس)، (الفصول)، (بعد التحية والسلام)، (المد والجزر)، (المشروع والممنوع)، (الأحزان العادية).

طالب بعضهم بعدم ظهور الأبنودي في الإعلام المصري المرئي، وذلك بعد ثورة 25 كانون الثاني (يناير) بسبب علاقته مع النظام البائد (نظام حسني مبارك)، وهذا ما يعيد إلى أذهاننا ما حدث مع أم كلثوم، ومنع بث أغانيها من الإذاعة المصرية بحجة أنها من العصر البائد. وعندما علم عبد الناصر بذلك ردّ مبتسماً: (إذاً فلنهدم الأهرام، لأنها من العصر البائد).

علاقة الأبنودي بالانظمة السياسية المتعاقبة في مصر تبقى مؤشراً فردياً دالاً على الاضطراب والخلل في علاقة المثقف بالسلطة السياسية، هذه العلاقة قد تشكل مأخذاً على الشاعر، لكنها تتلاشى أمام لهيب أشعاره الخالدة المناصرة للمظلومين، المتعاطفة مع المضطهدين، المنتصرة للحرية، المطالبة بالعدالة الاجتماعية.

وهل محتوى خطاب الأبنودي الشعري عبر مسيرة حياته وإبداعه إلا هذه الأفكار وتلك المواقف؟

فالأنظمة السياسية متبدلة، وكلمة الحق، وصرخة العدل، والمطالبة بصون كرامة الإنسان والدفاع عن حقه في الحرية باقية، ما دامت الإنسانية تعاني من الظلم والاضطهاد المادي والمعنوي.

اعتقل الأبنودي في عهد عبدالناصر (عام 1966) بتهمة الانتماء إلى خلية شيوعية، ولم يطلق سراحه إلا بعد وساطة من صلاح جاهين الذي ربطته بالشاعر علاقة صداقة متينة، كما جمعته علاقة وطيدة مع شاعر الاحتجاج والرفض أمل دنقل، صاحب قصيدة (لا تصالح) المعروفة، وهو أيضاً صعيدي، وقد جمعتهما ثانوية واحدة، وفي إحدى زيارات الأبنودي إلى الغرفة رقم 8 حيث كان يعالج أمل دنقل، بكى الأبنودي عندما تذكّر ما قاله له أمل في فترة الدراسة: (أنت حتبقى أشهر وأغنى مني، بس أرجو لما يجي اليوم ده نكون أصدقاء).

لم يكن الأبنودي شاعر الحماسة الوطنية، وتجاوز الانكسارات، والارتفاع فوق المصائب فحسب، وإنما كان أيضاً شاعر العواطف الرقيقة، فهو كاتب كلمات أغنية نجاة (عيون القلب):

(عيون القلب سهرانة.. ما بتنامشي

لا أنا صاحية ولا نايمة.. ما بقدرشي

يبات الليل.. يبات سهران.. على رمشي

وأنا رمشي ما داق النوم.. وهو عيونو تشبع نوم

روح يا نوم من عين حبيبي.. روح يا نوم)!

كانت مصر وأبناؤها بكل ما يملكون وتملك من قضايا كبيرة وتفاصيل صغيرة، عقله وقلبه ووجدانه، والدم الذي يجري في عروقه، تمثّلها وصاغها شعراً بسيطاً عميقاً مؤثراً، محمساً، يحرق وجوه الظالمين، وخير شاهد على ذلك قصيدته (ضحكة المساجين) بعد اندلاع ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني (يناير) 2011.

كلمات الشاعر مشبعة بروح الوطنية المصرية والعربية، مطالبة بالخبز والحرية والعدالة والكرامة الإنسانية..

ولنا في رثائه  أن نعيد ما قاله أمل دنقل في رثاء يحيى الطاهر عبدالله:

ليت أسماء تعرف

أن أباها صعد

لم يمت

هل يموت الذي كان يحيى؟

كأن الحياة أبد.

العدد 1105 - 01/5/2024