الانفصام القانوني.. (2)

 

 باتت مقولة القانون واجب التطبيق على النزاع في أروقة القضاء كمن يتوجب عليه وضع ملعقة العلقم بكأس الماء كشرط إجباري ليرتوي:

تصدر وزارة العدل بين الفينة والأخرى قرارات وزارية  لتصبح بعد فترة أعلى وفوق القانون واجب التطبيق، لكن يعترض المواطن أثناء تطبيق هذه القرارات القانون ان خالف شرطاً من الشروط!!

تخرج نقابة المحامين بإجراءات تخالف ما نص عليه قانون المهنة ذاتها ونظامها الداخلي، وتنسف كل ما يُسمى بحصانة المحامي، لكن عندما تريد أن يشتكي اليها المحامي من تظلم معين، تحاججه بالقانون!!

يمنع على المحامي المرافعة دون ارتداء ثوب المحاماة في المحاكم الجنائية تبعاً لنص القانون، لكن في الوقت ذاته الذي يُسمح فيه بمحاكمة الأفراد بطريقة مخالفة للقانون، حيث أن اغلبهم لم يتم اعتقالهم بطريقة قانونية بل عن طريق السلطة التنفيذية والضابطة العدلية وما شابهها.

أما في المحاكم الصلحية بمختلف أنواعها فترى العجب، إذ لا تستطيع تمييز القاضي والقاضية من مساعد المحكمة، والقانون يُحتم على القاضي وهو على قوس المحكمة أن يرتدي  ثوب القضاء، لكنك تدخل وتجدهم من الدفعات الجديدة المتجددة والمتحمسة للمنصب والمسؤولية الفارغة، وليس المسؤولية الحقيقية، وما أن تناقشهم بموضوع معيّن حتى تسمع مالا يرضيك من كلمات لا تمت للقضاء أو للقانون بصلة، بينما لا يوجد من يحاسبهم على مخالفتهم القانون بلباسهم وبمعاملتهم وتعاملهم، وبمزاجيتهم في الحضور والغياب، وتركك في انتظارهم إلى ماشاء الله..

تنتقل إلى المحاكم الأخرى لتجد القانون بكلمة: أستاذ بالقانون، أستاذة القانون، أستاذ، ألست محامي أستاذ بموجب المادة كذا من القانون؟ لكن وأنت بقلب هذه الملاحظات القيًمة لاتجد نفسك إلا انت وقضيتك التي تترافع عنها قد كبرتما معاً سنين وسنين ولا جديد،  ولم يزل طول الاجراءات وتعقيداتها التي هي مخالفة لما نص عليه القانون هي المطبقة وهي المتعارف عليها.

ثم يأتيك الدستور، فهو بغض النظر عن التساؤل حول الكيفية التي يدخل حيًز تطبيق مواده فيها، في الوقت الذي لا وجود فيه إلا لقوانين استثنائية وقوانين طوارئ، ولا سلطة مقيًدة للقانون سوى السلطة التنفيذية، فانّه بحد ذاته يتناقض مع ذاته كدستور بين مواده نفسها اذا ما اردنا تطبيقها بشكل فعلي وعملي على الواقع والأرض.

فمادة المواطنة التي ينص عليها على أنها الأساس  للعدالة والمساواة دون النظر إلى الجنس أو الدين أو العرق أو.. إلخ ،كيف سيتم تنفيذها عملياً في ظل المادة الثالثة منه التي تنص على أن الفقه الإسلامي هو أساس التشريع للدولة؟ وفي ظل حصر الدين الاسلامي ديناً لرئيس الجمهورية وجعل الذكر فقط  رئيساً للجمهورية حصراً دون الأنثى؟

وكيف لا يتناقض الدستور مع قانون العقوبات الذي يُعاقب على جريمة القتل بدافع الشرف ويعطي مرتكبها العذر المخفف؟ وكيف لا تتناقض مادة القتل بدافع الشرف مع ما يحصل فعلياً من قتل ومحاكمات لا تمت لشروط هذه الجريمة بصلة لا من بعيد ولا من قريب، ومع هذا تنتهي الى الحكم على الجاني بجريمة شرف؟ وكل الأدلة تؤكد بشكل دامغ أن المتهم قام بجريمته عن سبق الإصرار والترصد وعمداً وقصداً وأبعد ما يكون عن الشرف؟

حتى اللحظة لا يُناقش القضاء الأدلة ولا يلتفت لها، فقط لأننا مجتمع ذكوري بامتياز، فما إن تأتيه جريمة شرف حتى يبرئ قاتلها بدافع الشرف وخلافاً للقانون والعدالة الإنسانية.

أما القانون الواجب التطبيق ومواده المنصوص عليها والمقننة منذ سنوات طويلة فينسفها جميعاً عنصر صغير من عناصر الضابطة العدلية، ولا يتورّع عن شتمك وإهانتك بكلمات نابية وما جرى مجراها في حال قمت بمناقشته بالقانون ليس غير، وهذه اللاشرعية التي يقوم بها باتت مشرعة له أصولاً الآن لكن ليس بالقانون بل لغياب المحاسبة ولانعدام التطبيق الصحيح للقانون، والخوف من سلطته المطلقة عليك يجعلك تخشاه وتتحاشاه، لا أن تحترمه أو تنظر إليه نظرة احترام كما هو متوجب قانوناً.

وهذا غيضٌ من فيض.. لكن ماالحل؟ كيف يمكننا التماس القانون وتطبيقه بالطريقة المثلى والتي وُضع لأجلها؟ وهل يا تُرى القائمون على تطبيق القانون هم أنفسهم يهتمون له ولحسن سير العدالة أم حقيقة يريدونه هكذا، ولا يهمهم من هذا القانون سوى أن يُجاري مصالحهم ويُشبع رغبات أنانيتهم حينها فقط يكون اسمه قانوناً واجب التطبيق؟!

كيف نصل إلى احترام قانون لا يحترمه من يقوم عليه ويعمل به ويحكم به؟

كيف لنا أن نثق بوجود وبفعالية القانون بواقع تتسلط فيه سلطة تنفيذية على السلطة القضائية بالكامل وتعطل القوانين بلحظة، وتنسفها وكأنها لم تكن؟

كيف سنتجنب الأذى والضرر اللاحق بنا، والذي سيلحق بمن حولنا في حال كانت المحاسبة منعدمة والعقوبة ملغاة أساساً؟

أين الملجأ من تجاوزات السلطة التنفيذية إذا كانت هي الخصم والحكم والمحاسب والمقرر؟

ومن سيطبق القانون على هذه السلطة نفسها إذا كانت هي من تعطله أصلاً كلما أرادت؟

أين أضحى القانون واجب التطبيق في الواقع والقانون من تطبيق كهذا على الواقع والقانون؟

وهل ياتُرى في ظل التجاوزات تلك، والانعدام الكامل للمحاسبة، وانتشار الاستثناءات الناسفة للقوانين العادلة، يبقى ولو هامش صغير أو جزئي لقضاء كالذي نشهده ليتسنى لنا أن نقول عنه عادلاً بالحد الأدنى؟

وهل بقي تناغم وانسجام لوزارت الدولة فيما بينها حتى تتحد فيما يٌسمى مجلس وزارة في ظل تناقض عمل كل منها مع عمل الأخرى، وتقلص عمل وزارة العدل فعلياً على الأرض؟ وهل بقي لديها القليل من العدل للتمييز بين الواقع والقانون وما يحصل فعلاً بينهما؟ أسئلة كثيرة ربما علينا محاولة الإجابة عليها إن أردنا العمل بالتطوير والإصلاح المؤسساتي في بلادنا.

العدد 1105 - 01/5/2024