الموسيقا من منازل السحرة

ترن الأذن وتطرب وترقص أعصابها لسماع صوتٍ رنّان أياً كان مصدره، توقظ في النفس مشاعر صادقة، عميقة، ذاتُ صورة محزنة تدفع بنا إلى السكون والحزن أمام وقعها الشديد على جراح محسوسة لينخدع الإنسان بحساسيتها ويبكي.

أو ذات صورة مفرحة تترجم مكنونات اللحظات السعيدة إلى حركات وترنيمات آليتها الجسد والفم.. هذه هي الموسيقا التي تنبئ بعواطف جياشة، ساخنة ومتداخلة، أدركها الإنسان من مصدر خارجي قائم في أصوات الطبيعة.. فمن خرير الماء وقصف الرعد وهدير البحر وتكسر الأشجار والأحجار، وحفيف الريح على أوراق الشجر، ونباح الكلاب وزقزقة العصافير، وسكون الظهر الصيفي الحارق بحمرة الشمس، وتدرجات هذه الأصوات بين مداها البعيد وآفاقها السحيقة ودندناتها القريبة، حتى مشي الإنسان بقدميه على الأرض وصوته وحديثه.. كل هذه كانت مهد الموسيقا وحتى مهد الرقص اللذين يعدان من أقدم أنواع الفنون، فهذه الأصوات أثارت حفيظة الروح الشاعرية لدى الإنسان، ليحس براحة وسكون وفرح وحتى المواساة والعزاء في سماع الموسيقا، فيلخصها شوبنهور بمقولته: إن الموسيقا تظهر حقيقة الدنيا المختفية، وتعبر عن أسمى الملكات بلغة لا يدركها العقل. ويعرّفها العلم الحديث أنها نصف الفن، وهي فن كلامي وظيفته إثارة العواطف بتتابع الأصوات وتوافق الأنغام المنبعثة من الآلة الموسيقية.

وقد أدت أبحاث عدد من العلماء بعد تتبع المكتشفات الأثرية ومخلفات الإنسان الأول أن أول نشأتها كان في منازل السحرة، ومن موسيقاهم وُلد الغناء.. كيف هذا؟

لما كان الإنسان يجهل قوانين الطبيعة وأحكامها، كان ينسب كل الحوادث التي وجدها فوق إدراكه إلى أرواح خفية ومجهولة، فاعتقد بتأثير الأناشيد السحرية على تلك الأرواح الشريرة للتغلب عليها،  لذلك أوجد لكل مناسبة خاصة تتعلق بظاهرة معينة أناشيد خاصة بها، معتقداً أن فيها معجزات لقهر تلك الأرواح التي تخيفه وتقلقه.

في هذا يقول العالم غول كومباريو إن الإنسان الأول أو البهيمي كان يسمع أصوات الطبيعة، فيهتز إما طرباً أو خوفاً، إذ تنتشي نفسه وتبتهج لبعض هذه الأصوات، ويخاف ويقشعر للبعض الآخر، وكان يصور له الخيال أن هذه الأصوات صادرة عن أرواح فوق قوة البشر لها قدرة التواري عن البصر، فإذا طربت نفسه لبعضها ظنها صديقة له مشفقة عليه، وإذا اقشعر بدنه وداخله الخوف لسماع البعض الآخر مثل صوت العاصفة أو الزوابع، قال بقوة هذه الأرواح، ويود أن تعاونه الأصوات المسالمة الأولى على مقاومة الأصوات أو الأرواح القوية المعادية، فكيف له أن يتفاهم مع هذه الأصوات الجبارة العنيدة الآتية من عالم آخر غير مرئي؟ فكان لا بد له من التفكير في مخاطبتها بلغتها ومحاكاة أصواتها، فنشأت الموسيقا الأولى لما كانت الموسيقا الشاملة على الغناء والعزف والرقص والطرب من الفنون العريقة الموغلة في القدم، استخدمها الإنسان منذ القديم في أفراحه وأتراحه وأعياده ومأتمه، وفي جميع أطوار عمره وحتى في طفولته البدائية إلى أن بلغ سن الرشد الحضاري. وأياً كان هذا الإنسان من طفل أو شيخ أو شاب أو امرأة، وحتى الحيوانات، كل أولئك تهزهم الموسيقا ويحيون بها، فقد أصبح مثار جدل وبحث قائم بين علماء العالم، وتوصلوا حول اختراع الآلات الموسيقية إلى أن حنجرة الإنسان هي أول آلة موسيقية عندما حاول تقليد أصوات الطبيعة، ثم وحتى يريح جسده من الرتابة وعناء التقليد والتصويت اخترع الآلة الموسيقية، مزاوجاً بين أصوات الطبيعة وبين صوته وصوت الآلة، فكان من ذلك كله انسجاماً جديداً وعملاً طريفاً مازال يتطور ويتقدم.

في البداية لم تكن الموسيقا فناً واضحاً، بل عبارة عن أصوات غير مهذبة بلا قوانين ولا قواعد إلا التوازن الساذج الذي عرفه الإنسان بفطرته، ومعه ارتقت إلى كل أدوار رقيه، ويرى عدد من العلماء بعد إجراء أبحاثهم، ودراسة المواقع الأثرية في كل من بلاد الشام والرافدين ووادي النيل أن الغناء بدأ مصاحباً للعمل الجماعي (يعني الآلة الأولى وهي حنجرة الإنسان) ليكون وسيلة للتشجيع على الاستمرار في العمل.

لكنهم يتفقون على إنها مرت بمرحلتين أساسيتين، المرحلة الأولى موسيقا العصور الباليوليتية والميزوليتية (العصر الحجري القديم والوسيط) كانت عبارة عن غناء وتنغيم لصوت الإنسان.

والمرحلة الثانية، موسيقا العصر النيوليتي (العصر الحجري الحديث) وما تلاها من عصور، ازداد فيها الميل إلى التعبير الموسيقي باستخدام الآلات التي كانت في البداية قليلة جداً، ثم تقدمت صناعة الآلات التي تعطي تعبيراً أعمق وأكثر صدقاً.

ومع نشأة الموسيقا في منازل السحرة، تطورت مع التطور الديني ومعتقداته وطقوسه لتشكل بعدها جزءاً أساسياً في نسيج الحياة الفكرية للإنسان القديم، يمكن تتبع ذلك في حضارة بلاد الرافدين كنموذج من حضارات الشرق الأدنى القديم التي يسلّم الباحث علي القيم أنها المهد الأول للآلات الموسيقية ومنها انتشرت في بلاد العالم.

العدد 1105 - 01/5/2024