عشبة الخلود.. والنفس البشرية… حنا مينه: الشهرة محرقة والتعظيم عزاء

معرفتي بإبداع حنا مينه قديمة جداً، عمرها أكثر من أربعين عاماً، عندما قرأت له روايته الخالدة (الشمس في يوم غائم)، لم تلق استقبالاً يليق بها، بسبب لغتها المكثفة، الشاعرية، وما فيها من تناص من التوراة والإنجيل، وغيرها من مصادر المعرفة والآداب، كنت عندذاك طالباً في قسم اللغة العربية، وقد اعتدت لغة الشعر الجاهلي، ونثر العصرين الأموي والعباسي، فمن الطبيعي أن ذائقتي قد تكونت وفق ما تطلّع عليه من آثار أدبية.

أخي نبيل، طالب كلية العمارة الذي رحل وتركني أعيش مواسم أحزانه، قال لي عندما أفصحت عن ملاحظاتي حول لغة الرواية: يا أخي أعد قراءة الرواية مرة أخرى وانتبه إلى المقدمة، ولا تصدر أحكاماً سريعة على عمل من أبرز الإبداعات في تاريخ الرواية العربية.

بعدذلك تابعت إنتاج حنا مينه الروائي وقد اعتدت على لغته الروائية الحية، الطازجة، المغمسة بالواقع، المحلقة في الخيال، إلى أن شاءت الأقدار، وتعرفت عليه في لقاء شخصي مربك في مكتبه بوزارة الثقافة عام 1982 ذلك اللقاء الذي فتح لي أبواب علاقة أبوية ما تزال قائمة حتى اليوم.

كتبت كثيراً عن أعمال الكاتب حنا مينه تحت وطأة الإعجاب والدهشة والمحبة والتحيز لكاتب آمن بحق المضطهدين في الحرية، وأعلن انحيازه إلى الفكر الماركسي وانتصر للاشتراكية العلمية، وما زال يحمل رايتها في الوقت الذي تنكر لها الكثيرون.

أما عن لقاءاتي وأحاديثي وسهراتي المطولة معه فما تزال حبيسة الذاكرة إلى أن يأتي زمن، تخرج من سجنها إلى رهافة بياض الورق.

منذ أسبوع زرته في بيته، كان مزاجه رائقاً، وصحته جيدة، يستمع باهتمام ويعتذر عن الكلام (يا ابني في ذهني الكثير، لكن لساني لا يساعدني.. تحدث أنت وأنا أصغي). دار الحديث بيننا  المعلم والتلميذ  حول قضايا مختلفة سياسية اجتماعية أدبية.. لكنه كان يوجز ويكثف، ويقدم خلاصة تجربته في الحياة قائلاً: يا بني لا تيأس، اليأس مقتل، كن مقبلاً على الحياة  العاهرة ، مهما كانت الظروف فما من شدة تدوم، والنصر في النهاية للمقاومين.

بعدئذ طلب مني مساعدته للانتقال إلى مكتبه الأثير لديه، حيث الطاولة والكرسي الذي جلس عليه عندما كتب معظم أعماله الروائية، وحوله أكوام من الكتب على الرفوف وفوق الطاولة وفي كل أنحاء الغرفة، وعلى الجدران الصور واللوحات والشهادة الوحيدة التي حصل عليها الكاتب (الابتدائية) هو الذي كتب أكثر من خمسين مؤلفاً من رواية ونقد ومذكرات.

تأمل الكتب، غارت عيناه في أعماق صفحاتها تحسر وتأسف، تساءل: ترى ما مصيرها بعدي؟!

يا ابني افتح تلك الخزانة وخذ ما شئت من الكتب!

 ترددت، فأنا أعرف قيمة الكتاب لديه ومعزته عنده وتمسكه به، فقد سبق لي أن استعرت أحد الكتب، من مكتبته، وعند خروجي قال لي: متى ستعيده يا بني؟! لكنه اليوم يقول: خذ ما شئت من الكتب، قمت إلى الخزانة، نظرت في العناوين، كتب مختلفة، متنوعة في الفكر والأدب والسياسة والفن وبعض الروايات، توقفت عيني على رواية (زوربا)، ورواية (لوليتا) لنابوكوف، وفجأة ظهرت أمامي صورة عبد الرحمن الأبنودي في غلاف كتاب يحتوي مختارات من شعره.

حملت الكتاب واقتربت من حنا مينه، وقلت له: أتعرف من صاحب الصورة؟ فقال: لا أذكر، قلت له: هذا عبد الرحمن الأبنودي، فقال: إنه شاعر لماح، اقرأ لي بعضاً من أشعاره، وعندما فتحت الكتاب للقراءة، وجدت إهداء شخصياً بقلم الأبنودي إلى الكاتب حنا مينه.

قرأت له الإهداء، هز رأسه، وأبحر في الذاكرة قبطاناً، لا بل ريساً على مركب أجهدته السنون وخانه الجسد..هل أقول له: عبد الرحمن الأبنودي غادرنا وذهب بعيداً في السحاب وفي البنفسج.. ودون روية أو تفكير، وبتسرع ندمت عليه قلت له: يا أستاذ حنا، عبد الرحمن الأبنودي رحل إلى عالم آخر.. وضع راحة يده على رأسه وقال: يا بني كلنا راحلون.. إنني أنتظر الموت، لكنه هذا اللعين لا يأتي، وهأنذا أمامك أستمع، وأطلب منك المزيد من الكلام.. احك يا بني لا تصمت، فقلت له:

يا أستاذي أمثالكم لا يموتون، ستأتي أجيال مزودة بمعارف جديدة، ومعايير مختلفة وستعيد النظر في إبداعكم.. وأنتم من الخالدين..

قال: دعك يا بني من أكذوبة الخلود، ولا تتحدث عن الشهرة والعظمة، كلها للتعزية، مصير الإنسان إلى الفناء الفراعنة، وحدهم قد أدركوا ذلك، فاخترعوا فن التحنيط، ولكن أنتم ابتكرتم فن الكلمة: (هزمتك يا موت الفنون جميعها).

ساد بيننا صمت ثقيل، كسر رتابته سؤال: يا عاطف هل تذكر زيارتنا إلى حمص تلبية لدعوة من كنيستها، وتلك المحاضرة التي ألقيتها هناك؟ يا بني حدثني عنها!

رحت أسرد عليه بلغتي العاجزة، ومؤهلاتي السردية التي تخلو من التشويق أحداث تلك الرحلة…

العدد 1105 - 01/5/2024