أَجَلْ.. نحن جُناة ظالمون.. وأنتم الأبرياء العادلون..؟!

(جحا العربي) في الوجدان والتراث الشعبيين يرمز، فيما يرمز، إلى الإنسان العربي الساخر، الشريف، الطيب، المتسامح، (الشاطر) الذكي وصاحب (الحيلة) دائماً وأبداً…

ويرمز إلى الإنسان العربي الذي لا يثق تاريخياً بالسلاطين وقضائهم وعدالتهم وقوانينهم التي هي حبر على ورق أصفر.. كما يرمز إلى الأمن والأمان، وإلى الإنسان الذي لا يصمت، ولا يسكت، ولا يهدأ حتى يستردّ أيّ حق مغتصب له ولو بعد حين…

و(بيت جحا العربي) على الصعيد الفني الرمزي يمثل ـ كما أرى ـ البيت الوطني الكبير الذي مابرح في كل وقت هدفاً للصوص الداخليين والخارجيين الذين يسطون عليه، يسرقونه.. ينهبونه.. ويتناوبون على (حلبه) حتى أضحى هزيلاً، فارغاً إلا من العظم والجلد وبقايا عروق تنبض…

عن (جحا العربي) هذا، وعن بيته الكبير المستباح يُحكى، فيما يُحكى، أنه، أيْ جحا اكتشف ذات صباح أن بيته قد سطا عليه اللصوص و(نهبوه)… ولما سمع أهل البلد بالخبر، توافدوا عليه من كل حدب وصوب، وراحوا يسألونه عن هذا الذي جرى، وأين كان؟ (أسئلة توحي بأن أهل البلدة كانوا يظنونه مع اللصوص أثناء السطو والسرقة..؟) وانهالوا عليه لوماً وتقريعاً وتعنيفاً.. فراح أحدهم يقول له: كيف يجري هذا وأنت نائم لا تستيقظ؟ أكنت في نوم أم كنت في موت؟ وقال ثانٍ: هَبْ أنك لم تسمع.. أين كانت زوجتك؟ وكيف لم تسمع هي الأخرى؟ وقال ثالث: إنك، بلا شك، مقصر جداً لأنك، يا جحا، لم تضع لباب البيت قفلاً كبيراً متيناً..؟ وراح رابع يقول: لو أنك كنتَ قد اقتنيت كلباً وفياً.. ما استطاع اللصوص أن يقتربوا من باب بيتك (..؟) وقال خامس.. وقال عاشر.. وهكذا شرع كل واحد من أهل بلدة (جحا العربي) يدخل من باب في لومه وتقريعه وتعنيفه.. فقال (جحا) بغيظ مكتوم: حسبكم يا أهل بلدتنا.. حسبكم! إنكم (والله) أهل عدل وإنصاف حقاً (..؟) لقد أشبعتموني لوماً وتقريعاً وتعنيفاً.. وما رأيت واحداً منكم يذكر اللصوص بكلمة سوء واحدة.. فهل أنا الجاني الأثيم.. وهم الأبرياء الشرفاء..؟!

هذه الحكاية ليست من السريالية، وليست لوحة فنية ضوئية وتشكيلية كوميدية.. ولا هي من الأدب الساخر، القديم منه والمعاصر، ولا هي مشهد من مشاهد مسرح اللامعقول، أو مقطع من رواية (اللص والكلاب)…

إنها، أي الحكاية، شكلاً ومضموناً، فضاءً ودلالة، تنتمي بامتياز إلى عالم حقيقي، شديد الواقعية، نعيشه وتعيشه معنا البشرية في مختلف الأصقاع… تنتمي إلى عالم حافل ــ على وجه الإجمال ــ بالسقوط الأخلاقي والفكري والاجتماعي والثقافي والإنساني.. وحافل بالتمادي في الغي والفساد، والانهماك في الباطل والسلوك المزري.. حتى صار بعضنا، أو كلنا، يرفع رأسه ويديه إلى السماء واقفاً وراكعاً، خاشعاً وضارعاً، مستعطفاً ومتسائلاً صباحَ مساءَ:

أيتها السماء..! رحماكِ، رحماكِ.. الأرض أذأبتْ.. تَخَنْزَرَتْ وتثعلبتْ… فأصبحنا نحبُّ حباً شهوانياً مجرماً أن نأكل لحم (أخينا) حياً وميتاً (…؟). وباتت مقولة السيد المسيح الخالدة: (لا تستطيعون أن تعبدوا ربين: الله والمال) باتت على أيدينا الآثمة: (تستطيعون أن تعبدوا رباً واحداً: المال ولا شيء غير المال)..؟

أيتها السماء..! حنانيكِ، حنانيكِ.. فسِّري لنا ما يجري:

   –  لم يعد أيّ شيء (يزجرنا) ويمنعنا من الإمعان في التردي والسقوط، ويكُفّنا عن الانقياد للهوى وصغائر الأمور، وعن بيع الذِّمَمِ والضمائر والأوطان…

   – كيف غدا (الحامي) هو نفسه (الحرامي)..؟

   – وكيف تحوّل (الآخر) إلى خصم وحكم معاً وفي آن واحد..؟

– كيف فقدنا البوصلة، فانهارت القيم، وانحلّت المبادئ، وتهافَتَتِ الأخلاق والثقافة النظيفة، واختلت المعايير وانفلتتْ..؟ فأمسينا نتلمس المسوغات للقتلة واللصوص، ومن لفّ لفّهم، إذ غدا اللص (السارق) الحقيقي ـ عند هذا أو ذاك ـ بريئاً، شريفاً.. وغدا البريء الشهم النبيل متهماً ولصاً.. (يستحق) اللوم والتعنيف والتقريع والطرد من حظائر (الجموع) والعقاب والسجن.. و (يستحق) في بعض الحالات التجويع والموت..؟

وها أنا أقرأ في (المستطرف في كل فنّ مستظرف): (مرّ عمر بن عبيد بجماعة وقوف، فقال: ما هذا؟ قيل: السلطان يقطع سارقاً، فقال: لا إله إلا الله.. سارق العلانية يقطع سارق السر)..؟!

وها أنا، على ذكر السلطان والسارق والحامي و الحرامي.. أعود مرّة أخرى، إلى (جحا العربي) وأروي، على ذمتي، الحكاية الآتية:

كان هناك سلطان من سلالة السلاطين الذين يعبرون البحار والمحيطات والمدن والبلدان والقارات وكل الأمكنة، والذين لا يقفون عند حدود أيّ زمن من الأزمان.. كان يطلب كل واحد تقول عنه الرعية بأنه عالم، أو فقيه، أو أديب، أو فيلسوف، أو (مثقف) ويسأله السؤال الآتي: أعادل أنا أم ظالم؟

فإذا أجاب الأديب، الفيلسوف، المثقف: إنكَ عادل يا مولاي.. قتله السلطان على الفور(؟) وإذا قال أحد هؤلاء العلماء: أنتَ ظالم يا مولاي..! ذبحه من الوريد إلى الوريد.. وإذا قال آخر منهم: يا مولاي.. أنتَ عادل وظالم في آن معاً (؟!) أهدر السلطان دمه بلا تردد وبلا هوادة…

احتارت الرعِيّة (والرعية هي الماشية / الناس الذين تُرْعى أمورهم وتُدَبَّر شؤونهم..) في هذه المعضلة وهذا البلاء الذي يقطف الرؤوس.. وبعد مشقة في التفكير ومعاناة ومكابدة توصلت إلى أن (جحا) هو وحده من يستطيع تخليصها من هذه المصيبة التي نزلت بها.. فذهبت إلى جحا مثقلة بالرغيف والخوف والخنوع.. وقالت له: يا جحا… لن ينقذنا من هذا الدموي القاتل إلا أنتَ فرحماك.. رحماك.. ذهب جحا إلى البلاط المقدّس ولما جاء دوره وسأله السلطان العظيم: يا جحا..! أعادل أنا أم ظالم؟

ردّ جحا مباشرة أنت يا مولاي لست سلطاناً عادلاً ولا ظالماً، والظالمون هم نحن، وما أنتَ إلا سيف العدل الذي سلطه الله على الظالمين.. وأنت يا مولاي الباقي بقاء الزمان، ونحن لسنا أكثر من عابري سبيل.. وأنتَ من قبلُ ومن بعدُ (اللّات والعُزَّى) ونحن كتلة تتحرّك حركة تذبذبية حول جلالتكَ وسموكَ وفخامتك..؟! ففرح مَلِيك الخَلْق فرحاً كاد أن يذهب برأسه المحروس.. وقال: رائع، رائع.. حقاً، حقاً.. هذا هو الجواب الذي لم أسمع أجمل منه عبر حياتي السلطانية المباركة كلها…

وكان ما كان، أمر السلطان الجليل، الديمقراطي الذي ما برح يعتلي رقاب البشر عبر الزمان والمكان مُذْ كان يرفس في بطن أُمّه.. المفكرين والمثقفين والكتّاب والشعراء والإعلاميين الذين يمارسون العهر السياسي والدعارة الفكرية في عزّ الظهيرة، والذين بينهم وبين الورق الأخضر (شبق) مقيم بلا التباس، مثل شبق الذَّكَر من الحيوان (للأُنْثَى)..أمر بأن يبقى هؤلاء جميعاً في حظيرة القصر، يدخلون ويخرجون كما يريدون…

وبعد..

سيجارتي انطفأت، ولم تعد قادرة على مواصلة الاشتعال.. وقلمي غدا مثل (جبل فوجي) الياباني، وأصابعي تلاشت في جَمْره.. ولغتي ـ أراها بقلبي ـ تحترق.. تئنّ وتهمي في بلاط السلاطين الأعراب.. وفي أرجاء هذا الليل العربي ـ الأمريكي البربري الطويل…

وأنا، الكاتب المتعَب حتى العياء..الذي لم يبقَ بينه وبين الجنون سوى شعرة، صرتُ، روحاً وجسداً، في الهزيع الرمادي من هذه الظلمة الحالكة، صرت كائناً خرافياً في مهبٍ أرضيّ جحيميّ..

وملكوت سماويّ جهنميّ…

العدد 1104 - 24/4/2024