الغيلم المحبوب

لعل من أهم أسئلة الترجمة المشروعة أمام القراء أولاً وأمام من يشتغلون في هذا المجال ثانياً ، هل تمت هذه الترجمة حرفياً أم هي بتصرف؟ وهل أضاف المترجم ما هو ملائم لبيئته ومجتمعه وحذف منه ما يخالف ذلك؟ ثم أين إبداع المترجم في النص ؟ولماذا تميز هذا عن ذاك؟ وأخيراً  والأسئلة لا تنتهي، هل المشكلة في التأليف أم في الترجمة؟ ولماذا نجد اختلافاً قد يكون جذرياً بين ترجمة وأخرى للمادة نفسها؟ ربما روح النص هي الأهم من ذلك كله، وهذا ما نلحظه في (الغيلم المحبوب)، وهي قصة من منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب تأليف (روالد دال) وترجمة ميرنا أوغلانيان، ففيها نتوقف أمام نص متميز حقاً من حيث المكان أولاً، فالسيد (هوبي) يسكن شقة في أعلى مكان مرتفع، والسيدة (سيلفر) تسكن في طابق تحت شقته حيث شرفتها أعرض، وهذا ينطبق على أغلب التجمعات السكنية المتجاورة واللصيقة، والكتابة أخلاقية الشكل على رأي (بارت)، (لكنها أيضاً انتقاء المجال الاجتماعي الذي يقرر الكاتب فيه طبيعة لسانه) ثم جاء التميز في العاطفة، فهي إنسانية مادام الحب باقياً ما بقي البشر، من ناحية أخرى فإن الهدف شيء مهم وأساسي في أي عمل موجه للأطفال، ذلك لأن الكتابة لهم ليست بالأمر السهل، فهي تتطلب وعياً بعالمهم ومشاعرهم كما يرى محمد بري العواني، ونحن مطالبون على الدوام بإظهار احترامنا لهم ككائنات مفكرة حساسة، مدركة، وأن نتوجه إليهم كأناس بالغين وكأطفال في الآن نفسه، وإذا عدنا إلى هدف هذه القصة فالسيد (هوبي) يهوى شيئين أولهما الزهور التي يزرعها على شرفته في أصص وأوعية وسلال، فتموج شرفته الصغيرة في الصيف بالألوان، أما هواه الثاني فقد كان سراً يحتفظ به في أعمق أعماق قلبه ، فهل هو كذلك أم هي تقنية احتفظت بها القصة للتشويق ؟ والسيدة (سيلفر) امرأة جذابة في منتصف العمر، تعمل في متجر للصحف ، تتبادل مع جارها في الشقة العليا التحية، ولم يتجاوز الأمر أكثر من ذلك، والسبب يعود لخجله، فهو لم يجرؤ مرة على دعوتها لاحتساء فنجان من الشاي، وكان يتمنى أن يقوم بأمر غير عادي ليلفت انتباهها، و المشكلة أو العقبة الكبرى أمامه كانت في حبها لغيلم صغير أسمته (ألفي) إذ يسمعها تهمس له بكلمات محبة وتداعب ترسه فتصيبه الغيرة من فعلها ذاك، وهنا نجد النص قد فعل آلية تشويقه من جديد ليجعلنا نتابع بشغف ما سيحدث، إذ يعلم السيد (هوبي) بأن أقصى أمنيات جارته السيدة (سيلفر) بأن ينمو غيلمها ليغدو كما السلاحف الكبيرة، وهي ستكون خادمة لمن يساعدها في ذلك، وهذا ما جعله يحضر لها كلمات مكتوبة كتعويذة على ورقة صغيرة وادعى بأن رجلاً بدوياً علمه إياها يوماً، ومطلوب منها أن تقرأها ثلاث مرات بالمقلوب على غيلمها بعد كل وجبة.

 ومن هذه النقطة تأخذ القصة منحى التصعيد، وإن كان الفن قطعة من الحياة فهو ليس صورة منسوخة عنها، ولعل النص الأدبي الجيد المنبثق من بؤرة الوجدان أن يخلق رعشات صادقة وحميمة، وإلا فإنه كما يقول أدوارد سعيد لا قيمة له، وفي الغيلم المحبوب كان في انتظار السيد هوبي أعمال كثيرة، أولها تجهيز غرفة المعيشة ثم البحث عن عناوين باعة الحيوانات الأليفة في المدينة، وزيارة هذه المحلات لاحقاً، واختيار السلاحف المناسبة التي تشبه (ألفي) غيلم الجارة (سيلفر)، من حيث شكل الترس ومن ثم تلك التي تتقارب معه في الوزن، وكان عليه أن يشتري الكثير منها، فهو أمام تحد كبير وهدف يسعى إليه، وعليه أن يبذل جهوداً مضاعفة، خاصة وهو ينقلها للمنزل، حيث ألتقط (ألفي) من شرفة الجارة بأداة أحضرها لتلك الغاية ليستبدله بآخر يزيد وزناً عن غيلمها بعدة غرامات، وكان يرقب ردة فعل جارته الغالية التي لم تنتبه للأمر، وراحت ترقب بفرح غيلمها الذي يلتهم ورقات الخس معتقدة بأن الكلمات السحرية قد أخذت مفعولها وبدأت بالتأثير عليه، وفي عملية حسابية امتدت لشهرين تقريباً بدل فيها السيد (هوبي) الغيلم كل أسبوع تقريباً بآخر يكبره بقليل، حيث وصل وزنه في نهاية الأسبوع الثامن إلى سبعاً وعشرين أونصة، ولم يعد باب المنزل يتسع لدخوله، وهنا نلاحظ بأن القصة قد وصلت إلى ذروتها، وقد تم للسيدة ما تمنته يوماً، لكنه يقترح عليها عدم توسيع الباب، وكتب لها كلمات أخرى لتقرأها على الغيلم لكي ينحف قليلاً، وفي غيابها أستبدله بآخر، يستطيع الدخول، وتحقق له ما يريد، فقد وافقت على الزواج منه ليعيشا بقية عمريهما بسعادة وهناء، أما (ألفي الصغير أو غيلم السيدة (سيلفر) فلم تغفل القصة مصيره، فقد اشترته طفلة صغيرة من دكان البائع، ثم كبرت وتزوجت ورزقت بطفلين وبقي معها، واستغرق كل هذه المدة ليتضاعف حجمه، لكنه حصل في النهاية وتحقيق الغاية هدف مرتجى ومأمول في عالم الأطفال الذي لا يعرف الخيبات والهزائم، بل درس في الدأب والاستمرار والمحاولة للوصول إلى النجاح وهذا ما سعت إليه المترجمة ميرنا أوغلانيان في تقريبها لنص الغيلم المحبوب من واقعنا ومجتمعنا، وكان أمام بطل القصة السيد (هوبي) الكثير من المعوقات والصعوبات التي أستطاع مع الوقت أن يذللها ويتغلب عليها ليفوز بقلب من أحبها، وإذ اعتمدت القصة تقنية السرد البسيط والذي يقترب من الرواية، لأن زمناً قد مر وأسابيع توالت، فإنه يتناسب مع ما يريده الأطفال وتستسيغه ذائقتهم، وبرشاقة يقدم النص معلوماته المفيدة مبتعداً عن الشرح والإطالة.

العدد 1105 - 01/5/2024