الركود المجتمعي وإشكالية الإبداع!

غالباً ما تثار تساؤلات حول الأسباب العميقة التي أدت إلى الإبداعات العظيمة في أدب الشعب الروسي وفكره في القرن التاسع عشر. وكذلك الإبداعات الفكرية والأدبية في أمريكا اللاتينية في القرن العشرين، وخاصة في النصف الثاني منه، في الوقت الذي بدأ الإبداع الفكري في بلدان أوربا والولايات المتحدة بالتراجع الملموس، فلا يصعب على أي مواطن عادي، في سورية على سبيل المثال، أن يسمي الكثير من المبدعين في أمريكا اللاتينية، خاصة، الذين نشأوا في النصف الثاني من القرن العشرين. ولكن فلنسأل أي مواطن عن أسماء المبدعين في الولايات المتحدة أو أوربا في الوقت الراهن.. الجواب سيكون فقيراً.. فما السبب؟ وينطبق ذلك أيضاً على العالم العربي. فمن الصعب الآن على المواطن العربي أن يسمي شاعراً واحداً أو قاصاً في الظرف الراهن. ولكنه يتذكر أسماء كثيرة لمبدعين سابقين عاشوا في الفترة الماضية، حتى أولئك المبدعين المعروفين الذين لا يزالون على قيد الحياة.. فإنهم ليسوا نتاج المرحلة الحالية، وإنما هم نتاج مرحلة سابقة. وينطبق هذا الأمر لا على الأدب والفن فقط، وإنما على الفلسفة والفكر، وكأن العالم يمرّ في مرحلة عقم شديد لم تعد البشرية تستطيع إنتاج أي فكر عظيم يليق بهذا التطور الهائل في بقية مجالات الحياة. فما السبب؟!

تكثر الآراء ولا أحد يستطيع أن يدعي امتلاك الحقيقة كلها.. ربما تكون هي موجودة عند الجميع دفعة واحدة.. مثلاً: ما الذي جعل الأدب الروسي في القرن التاسع عشر يبدو عظيماً بهذا الشكل؟ وما الذي جعل الفلسفة الألمانية في القرن التاسع عشر تخطو خطوات رائدة على طريق تطور الفكر الإنساني؟ وما الذي جعل من الأدب الفرنسي، في القرن التاسع عشر، عظيماً أيضاً؟ ولماذا أوربا الحالية ومعها الولايات المتحدة، على سبيل المثال، لم تنتجا أي فكر له هذا الطابع العالمي المؤثر.

إنها أسئلة يتداولها الكثير من مثقفي هذا الوقت. ودون شك، لا توجد أجوبة ناجزة إلى وقتنا الحاضر. بيد أن هناك آراء وآراء، ربما يلامس بعضها شيئاً ما من لب المسألة.. ربما سيتم التعمق بها في المستقبل، كي يتم  الوصول إلى تحليل صائب لهذه الظاهرة التي إذا لم تشخص جيداً، قد تؤدي إلى استنتاج: أن العالم يتجه نحو الخواء الفكري.. وأن الحياة الإنسانية تصبح أكثر شحوباً مما كانت عليه في الماضي.

إذاً، هناك بعض الأفكار تسعى لتحليل هذه الظاهرة، ليس فقط من أجل التحليل، وإنما، من أجل المعرفة.. معرفة الأسباب العميقة لهذه الضحالة الفكرية التي تعم الإنسانية في الوقت الحاضر.

إن من يعود إلى الوراء.. إلى القرن التاسع عشر ويرسم صورة للأوضاع آنذاك.. فإنه يصل إلى نتيجة، ولنأخذ على سبيل المثال: روسيا القرن التاسع عشر.. كانت المؤشرات كلها تشير إلى أن روسيا كانت تقف آنذاك على أبواب عصر جديد. عصر لم تعد فيه العلاقات القديمة، علاقات القنانة، صالحة للحياة. عصر بدأت تتطور فيه علاقات إنتاجية جديدة ذات طابع رأسمالي، ولكن، مصحوبة برؤى ضيقة الأفق. وجمهور واسع يطمح إلى الحرية. كان من الواضح أن المجتمع  الروسي قد وجه ضربة مباشرة إلى السكونية التي كانت قد تغلغلت إلى أعمق أعماقه خلال قرون طويلة.. وبدأ الحراك الداخلي يتفاعل بشكل متسارع، وأخذت المؤشرات تدل على أن المجتمع القديم  قد بدأ يتهاوى، وأن شيئاً جديداً قد بدأت ملامحه تلوح. وفي ظل هذا المناخ الصاخب الذي لا حدود لحراكه، كان لا بد أن تنشأ أفكار عظيمة يواكبها أدب فعال يعكس هذا الحراك ويرتقي إلى مستواه. وفي هذا السياق يمكن إيراد أمثلة كثيرة.. ينطبق ذلك على أوربا، وخصوصاً فرنسا القرن الثامن عشر ومنتصف التاسع عشر حيث كانت البرجوازية المنتصرة  قد وجهت ضرباتها الحاسمة إلى العلاقات الإقطاعية المتهاوية. وكانت طبقة صاعدة تحمل في طياتها المستقبل القادم. وكان من الطبيعي أن تنتج مفكريها وكتابها الكبار رغم أنها كانت تحمل في أحشائها تناقضاتها الداخلية الحادة. وينطبق ذلك على أمريكا اللاتينية في القرن العشرين، التي أنتجت خلاله كتَّاباً ومفكرين كبار، إن أمريكا اللاتينية ذات البعد الثقافي المختلط: إسباني- هندي… لم تعد  تستطيع العيش تحت حذاء الأمريكي الذي كان يمتهن كرامتها وينهب خيراتها ويسرق تعب أبنائها. وبمعنى آخر: كانت أمريكا اللاتينية على أعتاب تحولات عميقة أدت إلى إنتاج أفكار عظيمة. وعندما تحولت الرأسمالية في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية إلى مجتمعات راكدة نسبياً دون أن يلوح في الأفق أية تغيرات جدية تمكنها من أن تهز هذه السكونية، لم تعد هذه الشعوب قادرة على إنتاج أفكار عظيمة.

أما في العالم العربي، وفي مرحلة النضال من أجل التحرر من نير الاستعمار، فقد  استطاعت الشعوب العربية التي تأثرت بمثُل الحرية في أوربا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أن تنتج منارات مضيئة ذات طابع نهضوي. بيد أن تطور هذه المجتمعات اللاحق، وتحولها إلى مجتمعات راكدة، قد وجه ضربة ساحقة لأي فكر إبداعي جدّي. لم تنتج البلدان العربية خلال أعوام طويلة من أعوام الركود أي فكر عظيم، لا في سورية ولا في أي بلد عربي آخر، إلا ما ندر، إذ لا يمكن لمجتمعات الركود إلا أن تنتج فكراً يعكس ذلك الركود. وربما سنشهد في الفترة المقبلة، نمو فكر عربي يستطيع أن يدفع هذا الحراك الشعبي إلى الأمام، إلى مستقبل أكثر رسوخاً وأكثر إشراقاً.

 إن كل المؤشرات تشير إلى ذلك، فالمارد استيقظ..

العدد 1105 - 01/5/2024