عندما يطل الشعر من غير نوافذ القصيدة..!

أي متعة في جنسٍ، أو أي نوع أدبي لا يتضمن الشعر، أو لايحوي القصيدة..؟!!

سؤال طالما سألته لنفسي وأنا أقرأ رواية أو قصة، أو حتى مشاهدة فيلم سينمائي، أو عرضٍ مسرحي، وحتى مشاهدة لوحة تشكيلية، البعض يرى أن مثل هذه  الأنواع تُشكل منافذ اليوم للشعرية، والقصيدة لأن تُقال من خلال تسللها في هذه الأجناس الأدبية، والإبداعية على تنوعها، إن كان في القصة، أم في الرواية، وحتى في الدراما التلفزيونية، وفيلم السينما، واللوحة التشكيلية وفي المسرحية.؟!! فالشعر، هذا الكائن الممزق بين أسئلة الوجود، والمعيش، وبجواره المضني، مع المرئي، واللامرئي، مع الأعماق الدفينة للكائن والتاريخ، الشاهد على كل خساراتنا، هذا الكائن الذي يقع في المنطقة الأكثر قلقاً، والأكثر ترحلاً.. هل لأنه كذلك، كان الأكثر انزياحاً، بل الأكثر انسياباً وتماهياً في الأجناس الإبداعية الأخرى. ؟!

ضيق القصيدة

 ثمة من يرى اليوم أيضاً، أن القصيدة قد تضيق بما عند الشاعر، وطالما ضاقت عند الكثير من الشعراء، ولم تتح لهم الفضاء الكافي ليعبروا من خلالها، ومن ثم تذهب (الشعرية) في أجناس أخرى غير القصيدة، فها هو ذا أدونيس، بكل قامته الشعرية، التي لم يأتِ العرب بمثلها منذ المتنبي إلى اليوم، يُعلن أن دورته الشعرية قد اكتملت، ولم يعد لديه ما يقوله من خلال القصيدة! هكذا وبكل جرأته المعهودة، وهو الذي طالما حرّك المياه في البرك الراكدة بحجارته الضخمة، يؤكد أحد أعمدة قصيدة النثر في العالم العربي، أنه لم يعد لديه ما يقوله شعراً، وسيعكف على كتابة سيرته الذاتية، فإذا كانت قصيدة النثر آخر أشكال للقصيدة العربية ظهوراً قد وصلت إلى مرافئها الأخيرة، فإن القصيدة العمودية، كانت استنفدت كل جمالياتها الغنائية والإيقاعية تكراراً منذ عهود طويلة، ولم تفلح معها كل جهود شعراء الكلاسيكية الجديدة، أوائل القرن العشرين، في أن يضخوا الدم في عروقها المتيبسة، فكان نتاجهم، وكأنه منجز مكتمل ضمن دائرة زمنية ضيقة، ومن ثم كان أن انتهت، وهكذا كانت قصيدة التفعيلة، التي لم تكن إلا مرحلة تشبه الجسر للعبور بالقصيدة العمودية إلى قصيدة النثر، وحتى نزار قباني كان لديه الجرأة لأن يعلن ذات يوم أن: شعر الشاعر، لايعبر إلا عن عشرة بالمئة من فكره، وأما التسعون الباقية، فلا تُقال إلا نثراً.. وهذا ما يؤكده اليوم هجرانها من قبل الشعراء أنفسهم إلى أجناس إبداعية أخرى، كالرواية، والتشكيل، و.. غيرهما.

الدائرة المكتملة

صحيح أن الإبداع لايشيخ – كما يذكر أدونيس – عندما سألته ذات مرة عن حقيقة وصول قصيدة النثر إلى التقليدية واستنفاد جمالياتها، وما قد يشيخ، قليلاً أو كثيراً، هو شكل التعبير. فاليوم لم نعد نكتب مثل أبي تمام والمتنبي، لا لأن هذا الشكل لم يعد صالحاً، بل لأن المتنبي وأبا تمام أوصلا أشكال تعبيرهما إلى ذرا لا يمكن تخطيها، فإذا كتبت مثلهما، فأنت محكوم عليك أن تبقى في ظلهما، ولذلك نحيد عنهما لا رفضاً لهما، بل نعيد بطريقتنا الخاصة تجربة ما قاما به بابتكار أشكال جديدة. واليوم يبدو أن أشكال الشعر نفسها قد استنفدت، أو لم يعد لديها خيارات لأن تقدم نفسها مستقلة، لاسيما مع ظهور القصيدة العارية التي صارت تعادل الكلام العادي واليومي، وتخلت عن صور كل الشعر، الذي ما هو صور، صحيح أنه لم يعد مطلباً اليوم من القصيدة أومن الشاعر أيضاً أن يكون ذلك (الهادي والمنوّر والخطيب، والرجل الثاني إن لم يكن الأول في القبيلة بعد زعيمها أو شيخها، إن لم يكن الزعيم أو الشيخ هو ذاته شاعراّ، لكن ليس صحيحاً أن تنزل القصيدة إلى هذا الدرك من العادية وكأنه ليس أمام القصيدة العربية اليوم إلا سلوكين: إما الإغراق في الذهنية التي لا تقول إلا ركاماً لغوياً، أو الهذر بما هو عادي. هل يعني هذا أنه ليس أمام الشعر اليوم، من سبيل للظهور، وقد استنفد أشكال ظهوره كجنس أدبي مستقل، إلا أن يتسلل في الأجناس الإبداعية الأخرى؟! ربما، وما المشكلة في أن يتمدد الشعر في الأجناس الإبداعية على تنوعها؟ فما قيمة رواية، أو لوحة، أو مسرحية، وحتى مسلسل تلفزيوني، إن لم يتضمن الشعر؟ بل هل يمكن اعتبار أي منجز للإبداع مبدعاً إن لم يكن شاعراً؟!

مع ذلك، ورداً لكل المتشائمين، من أن زمننا اليوم ليس زمن الشعر، حيث القبح يجتاح العالم، وأنه في الزمن القبيح، لا يمكن للقصيدة أن تعيش، أقول: إن كان من زمن للقصيدة، فإن أزمنة القصيدة هي هذه الأزمنة.

العدد 1105 - 01/5/2024