«حوار الأيام».. كنز من الأحداث وشخصيات فاعلة

هذا الكتاب من السجلات الغنية لمرحلة تاريخية مهمة من تاريخ لبنان الحديث والمعاصر، وضعه أحد رموز الحركة الثقافية والأدبية والسياسية حبيب صادق، رئيس المجلس الثقافي اللبناني الجنوبي.

تضمن الكتاب كنزاً من المعلومات، ومن التاريخ المعيش لحقب وشخصيات وأحداث لا تزال فاعلة حتى اليوم في تأثيرها وتتابعها وتواصلها، عبر نظرة ورؤية ومشاعر وتحليل رجل لا يُعرف بغير الانتماء الإنساني الصادق وصفاء الروح، مذكرات مكتوبة بصيغة مبتكرة بناها الكاتب على قسمين: معالم الحوار، ومعالم من خارج الحوار. وذلك للحفاظ على الحديث الشفهي بكل عفويته، ونواقصه، ومن ثم استكماله وتصويبه وسد ثغراته ونواقصه بما يحوله إلى نصوص كاملة لمذكرات غير خاضعة لضغط الأسئلة السريعة لحديث أراد تحفيز الذاكرة على التفكير في مخزونها، أكثر مما كان استخراجاً متكاملاً لهذا المخزون.

في الأساس كان المشروع حاملاً عنوان (الذاكرة المحكية للبنان)، أطلقته مؤسسة المحفوظات اللبنانية الوطنية، التابعة لرئاسة مجلس الوزراء اللنباني. وقد أجرى الحوار الإعلامي اللبناني المعروف طانيوس دعيبس الذي اعتبر حوار الأيام (مبادرة مبدعة لتسجيل ذاكرة الوطن، على لسان أشخاص عاشوا حياته العامة بكل اتجاهاتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية من وجهة نظر يسارية، واختزنوا في ذاكرتهم ما يمكنه رسم صورة شبه كاملة لثمانية عقود أو مئة عام من عمر لبنان، من نهايات الانتداب الفرنسي في الأربعين من القرن العشرين إلى عصر الاستقلال الملتبس، إلى الفتن والحروب الأهلية إلى الصراع مع إسرائيل.

إن حوار الأيام الصادر حديثاً عن (دار الفارابي). والذي يمتد على مساحة شاسعة من الصفحات (950 صفحة) لابد أن يكون نشأ من مكنونات طبقية عميقة، في أرض صلبة وقديمة يستوقفك الجوهري منها الذي يضع حياة وأمثولة.. وليس اعترافات ذاتية يدلي بها المتكلم رداً على أسئلة المحاور، وإضاءات لتاريخ حياته الشخصية والعامة، ويمكن القول إن ما أورده كتاب (حوار الأيام) هو وقائع وذكريات تمتد على امتداد وعي الكاتب المتجدد الطويل ومسيرته المتنوعة القاسية. ثلاثة وثمانون عاماً هي مسافة حبيب صادق حتى الآن، حياة صعبة شاقة متنوعة وصادقة، وتحمل من اسمه نصيباً وافراً.

وقد اتجه السرد فيه اتجاه تاريخي لحياة تكاد لا تلمس العامل الذاتي فيه، فلم يتكلم حبيب صادق عن نفسه إلا ما يخدم الشخصية السياسية تبعاً لمقولة الأدب الاشتراكي.

وإذا أخذنا نشأته الأولى في الجنوب اللبناني التي كانت دينية في الأساس، فوالده كان رجل دين بارزاً وشاعراً وخطيباً احتل مكانة سياسية بارزة في حينه، وكذلك أخواه الأكبر منه.

في هذا الحضن الديني المعنوي نشأ، وكتب قصائده الدينية وحمل الحيف صامتاً بين أسرة كبيرة العدد. إذ لا بد أن يتعرض بعضها للحيف، وأن تنعم السلسلة الذهبية من المشايخ فيها بالامتياز الموروث. وكانت الأوضاع محصورة بين سلطة رجال الدين وسلطة رجال الإقطاع الذين كانوا يتنازعون النفوذ الاجتماعي والريعي على الأرض والفلاحين.

ورث حبيب صادق طبعاً دينياً أولياً من والده وأخويه، ولكن هذا الطبع تحول تدريجياً  إلى إحساس طبقي حاد لم يستطع فكاكاً منه حتى الآن، وهذا ما جعله يندفع اندفاعاً بديهياً في طريق الاشتراكية، لأنه كما يردد دائماً فيها طريق الخلاص، كما أن معاناته في زمن الطفولة، وفي زمن الشباب الأول، ومعاناته في المدارس المختلفة التي كان ينهل منها، حدد (حوار الأيام) ملامح كثيرة من أخلاقياته، تجلت في سماته وصفاته من موقعه كأديب وصاحب قضية وسياسي من النوع المختلف في الحياة السياسية.

وعندما بدأت بقراءة (حوار الأيام) الكتاب الرائع الذي وضعه حبيب صادق وحاوره الإعلامي طانيوس دعيبس، كنت أعتقد أني أعرف الكثير مما ورد من تفاصيل في عالم حبيب صادق الرحب المتنوع والمتجدد.

رغم معرفة عائلتنا بحبيب صادق منذ سنوات طويلة، وخاصة من خلال صهري زوج أختي الكبرى فاطمة، الأديب عبد اللطيف شرارة أحد رموز الحركة الثقافية في لبنان الجنوبي، وكان عضواً نشيطاً وفاعلاً في المجلس الثقافي اللبناني الجنوبي، وصديقاً حميماً لحبيب، رافقه حتى اللحظات الأخيرة، ومن خلال أخي الأصغر خضر نبّوه الذي كان يهتم بالأدب وعلى علاقة وثيقة بالمجلس الثقافي، وبحبيب شخصياً..

وعندما كنت أحضر كتابي عن الكاتبة والأديبة زينب فواز من الجنوب اللبناني، إحدى رائدات النهضة العربية الحديثة وأول من كتب الرواية العربية، كنت بحاجة إلى توثيق بعض المعلومات التي بصعوبة حصلت عليها، فتبرع حبيب مشكوراً بتأمين بعض المعلومات غير المدونة عن هذه الكاتبة المبدعة من العائلة، ومن مصادر أخرى.. وقدم للكتاب بشكل رائع.

كان يرعى ويحتضن الثقافة، وخاصة في الجنوب اللبناني حيث نشأ بكل ما يملك من إمكانات.. ونصيراً متميزاً للمرأة.

وحوار الأيام جاء مؤكداً لما كنت أعرفه، وهو كثير عن سيرة حبيب صادق الإنسان والأديب والسياسي.

هذه السمات المميزة جعلت من حبيب صادق شخصية تمتاز عن غيرها بكثير من الصفات المرموقة لا في الجنوب اللبناني فقط بل أيضاً في مختلف المناطق اللبنانية.

ولكن كتاب (حوار الأيام) في صيغته الحوارية قدم لي عن حبيب صادق أكثر مما كنت أعرفه عن سيرته الغنية منذ مطلع شبابه، وسيرة طفولته الصعبة التي لم أكن أعرفها.

وأهمية الحوار في أنه ينتزع من الشخص الذي يحاوره أكثر التفاصيل عن حياته، المهم منها والأقل أهمية، خاصة إذا كان المحاور متميزاً ولامعاً من نوع طانيوس دعيبس، فقد نجح في دفع حبيب صادق إلى أن يقول ما كان يتردد في قوله، في علاقاته مع الناس ومع الأحداث التي كان يمارس دوره فيها مثقفاً نقدياً وسياسياً مختلفاً.

ويمكن القول إن الإنجازات الثقافية التي حققها حبيب صادق مع عدد من المثقفين الكبار تتمثل في الدور الريادي الناجح إلى أبعد الحدود الذي مارسه منذ البدايات حتى الآن المجلس الثقافي اللبناني الجنوبي، خلال عقود من الزمن حتى الآن.

وكذلك مشاركته الفعالة في تأسيس اتحاد الكتاب اللبنانيين مع عدد من الأدباء والمثقفين المرموقين، وكان في السنوات الأولى من تأسيسه منارة للحرية والديمقراطية، وبسبب عوامل كثيرة واجهها الاتحاد تحول فيما بعد إلى مؤسسة هامشية وغير فاعلة في الحياة الثقافية.

وكذلك خوضه بعض المعارك الانتخابية منذ عام 1968 وقراره الخروج نهائياً من مثل هذه النشاطات.. بعد أن كان نائباً في المجلس النيابي اللبناني.

حوار الأيام من الكتب التي لا يمكن لمقالة واحدة أو أكثر أن تفيه حقه، فالأحداث التي مر بها لبنان والتجارب التي عاشها حبيب صادق تجعل من الصعوبة حصرها..

 

حوار الأيام يُقرأ أكثر من مرة..

إصدار دار الفارابي ـ بيروت .

950 صفحة من القطع الكبير.

العدد 1104 - 24/4/2024