ما بين الواقع والمأمول

صنّف التعليم عالمياً من بين أصعب ثلاث مهن. وحين يحمل المعلم مبادئه على عاتقه، ويُصِرُّ على أداء رسالته في المدرسة أو الجامعة بتفانٍ وإخلاص وضمن واقع معيشي صعبٍ وشاق، تُرى ما مدى حدود صبره وهو يرى بعض زملائه في مهن ووظائف أخرى يمتلكون بيوتاً تأويهم وأسرهم، ويستقلون أحدث أنواع السيارات، وهو الإنسان الذي يعاني شظف العيش وغلاء المعيشة، إلى جانب الإرهاق الشديد جسدياً ونفسياً، كونه على تماس مباشر مع شريحة واسعة ومتباينة من التلاميذ.

ألا يدفعه هذا الواقع القاسي للبحث عن مصدر رزق آخر يُعينه على مهامه الأسرية- المعيشية عبر الدروس الخصوصية؟

ثمَّ، وعندما صدر قانون منع الضرب في المدارس، هل هيّأنا معلمينا تربوياً ونفسياً من أجل تبني منظومة تربوية متحضّرة في المدارس؟ أم كان على وزارة التربية -كما في الغرب- أن تُقرَّ هذا القانون استناداً إلى منظومة القيم التربوية في الأسرة أولاً، عبر لجان متفرعة تحمي الطفل من الضرب والتعنيف الأسري ليكون هناك تناغم وانسجام ما بين أساليب التربية ما بين البيت والمدرسة.

ومثلما تغيرت مناهج الكتب المدرسية بالتسلسل ابتداء من مرحلة الحضانة؛ يجب أن يتغير أسلوب التعامل مع الطفل- التلميذ، بالامتناع عن تعنيفه بالضرب، أو بالألفاظ النابية المؤذية أحياناً أكثر من الضرب، وبذلك يعتاد منذ الصغر على هذا الحق. كان المطلوب من المؤسسة التربوية، أن تقيم دورات مطوّلة للمعلمين عن أساليب التعاطي مع التلميذ المعنّف قبلاً بالضرب من أهله، لا أن تقرَّ قانونا محقاً وصادماً بالوقت ذاته دون تمهيد مجتمعي موسع- إلا ما ندر في بعض الندوات-

قانون وجد فيه الطالب طاقة الفرج، ليفرّغ من خلاله كل انفعالاته وفوضاه، متمسكاً بحقه في ألا يمسه سوء جسدي من قبل المعلم، وبذا تضاعف جهد المعلم مع جيل متحمس منفتح جداً على الحياة، لا يتوانى عن التقليل من احترام المعلم، ولا نستغرب أن وصل الأمر ببعض التلاميذ إلى التطاول عليه جسدياً، أو تهديده بالأذى، مما دفع الكثير من المعلمين إلى التخلي عن مبادئهم التربوية، مكتفين بإلقاء أو تلقين الدروس في الصف، دون التشديد أو الاهتمام بالنتائج التي سيحصدها الطلاب.

وبعد كل هذا نبجّل المعلم أيّما تبجيل، فنطلق عليه صفة الرسول المربي، ناشر الأخلاق والمبادئ قبل العلم..

ألا نحمّله بذلك عبئاً فوق طاقته حين لا يلقى تبجيلاً حقيقياً يليق بعطائه من الحكومة أو من طالب العلم ذاته؟!

كي يأخذ المعلم حق تقديره، على المجتمع كله أن ينهض معه، ويساعده على أداء مهامه التربوية والتعليمية، ورفع كفاءاته المادية واستغلال مهاراته، كي يكون المثل الأعلى لطالبي العلم، فمن دون المعلم لن يكون هناك مستقبلٌ يُبنى أو وطنٌ مُعافى.

العدد 1105 - 01/5/2024