الثقافية الوطنية ــ الإنسانية في مواجهة العولمة والتفاعل مع منجزاتها.. كلام في «الهوية».. كلام في الراهن

متى يتكاثر الكلام على (الهوية)- بالنسبة للأمة أو القوم؟- وتتصاعد نبرة التأكيد على عراقتها، وتعداد مميزاتها، والذهاب عميقاً في التاريخ لاستجلاب هذه المميزات كما لو أنها وجدت هكذا: جوهراً متبلوراً، منذ قديم الأزمان؟!

قد يصح القول: إن توالي الهزائم، وتفاقم الأزمات، وتصاعد الأخطار التي تهدد الأزمة من خارجها، مع تنامي نزعات التفتيت القطري والإتني والطائفي من داخلها.. هذه كلها تدفع بالأكثرية من مثقفي الأمة، ومختلف الذين يكتبون، أن يفزعوا إلى ترسيمات (هوية) مرسومة لنا سلفاً، في صدر تاريخنا القديم، فليس إلا أن ينفضوا عنها غبار الأزمان، ويستجلبوها إلى زماننا، متراساً أصلياً جاهزاً، تتحصّن به الأمة في زمانها الراهن؟!

طبعاً، يصح القول هنا: إن خصوصية تكوين كل أمة، أو إذا شئتم، في العناصر المكوّنة لـ (هوية) الأمة أو القوم أو الشعب، عناصر من الثقافة والمعالم والصفات تكونت وتتكون عبر تاريخ طويل..وما دامت هذه المعالم والصفات في حركة من التكون الدائم، فهي إذناً ليست كلها في حالة من الثبات والتقولب، بل في حركة تفاعل مع جديد الأوضاع والأزمان والتحولات.

انطلاقاً من هذا، يمكننا القول: إن (الهوية)، كما يطيب لي أن أفهمها، ليست جوهراً قديماً، متكوناً جاهزاً ثابتاً، قد تحدّر إلينا من الماضي السحيق.. (رغم أن عناصر من ثقافات ومعالم وتكوينات، وحتى تقاليد وعادات من هذا الماضي، لها حضورها، الفاعل أيضاً، في زماننا الراهن)..على أن الهوية تُنتَج.. يصار إلى إنتاجها، باستمرار.. الهوية لها صفة تاريخية تتفاعل مع علاقات زمانها.. تستمد العديد من عناصرها المكونة، من تاريخ مسيرتها في الشعب الذي يتصف بها.. ولكن العامل الأكثر حسماً في تحديد هذه (الهوية) هو- في رؤيتي  – ما يصار إلى إنتاجه الآن، في زماننا الراهن، من فكر وثقافة وفنون ومنجزات تكتسب تميزها بمدى ارتباطها بمسارنا التاريخي، وبضرورات زماننا الراهن، وباستهدافاتنا المستقبلية.

ـ فالهوية، في الثقافة خصوصاً، ترتبط أساساً بالواقع الاجتماعي الراهن، بمدى الارتباط العميق بهذا الواقع المحلي الوطني، القومي، ومدى التعبير (الإبداعي) عن حركة هذا الواقع.

والإبداع ـ في الفكر والفلسفة، كما في الثقافة وأنواع السرد، والفنون عامة، ليس في استعادة ثقافات الماضي وتقليد أشكال فنونها، وتكرار الأفكار القديمة نفسها.. بل بمدى ما يضيفه الفعل الإبداعي الراهن إلى هذا التراث كله، وبمدى ما يتمايز عنه أيضاً.. وكذلك بما نضيفه، فعلاً، إلى الثقافة الكونية المعاصرة، ونتمايز عنها في الآن نفسه، نتفاعل ونتخالف، تتعدد الألوان وتتمازج، في التيار النغمي للسيمفونية العامة لهذه الثقافة الكونية المعاصرة.

فأين مكان الثقافة الوطنية في هذا السياق من حديث (الهوية)؟.. وماذا نعني بهذا التعبير (الثقافة الوطنية) الذي يبدو أنه يحمل مفهوماً محدداً للثقافة من حيث هي: ثقافة..

و..وطنية؟

فما هي، إذاً، الثقافة الوطنية؟

في أواخر السبعينيات، أثير في الوسط الثقافي في لبنان نقاش واسع، اتخذ أحياناً طابع الحدة، حول مفهوم (الثقافة الوطنية).. من التساؤلات الأساسية التي طرحت: هل صفة (الوطنية) في (الثقافة الوطنية) تعود إلى المكان الجغرافي لـ (الوطن) أم هي صفة للموقف الوطني المندرج في إطار حركة التحرر الوطني، مع ما يستلزمه هذا الموقف؟

ومن التساؤلات أيضاً: هل يصح إبقاء هذه الصيغة (الثقافة الوطنية) كما هي، أم الأصح إضافة صفة (الديمقراطية) إليها، كما تقتضي ضرورات الزمان وحاجات الفرد العربي والمجتمع؟

فإذا أخذ بالمعنى الجغرافي لصفة (الوطنية)، فهذا يفضي، بداهة، إلى القول: إن كل ما ينتج داخل (الوطن)، من أنواع وأشكال ثقافية، على اختلاف مواقع منتجيها ومواقفهم الأيديولوجية والطبقية (أي: التقدمية والرجعية، مثلاً، والعلمانية والسلفية.. والبين بين..) يدخل في الإطار الواحد الموحد لـ.. الثقافة الوطنية!

في هذه الحال طرح سؤال إشكالي آخر: ما جدوى شعار التقدميين في الدفاع عن الثقافة الوطنية بمجملها وتطويرها مادامت (الثقافة الوطنية) هذه هي الثقافة الرجعية والتقدمية عموماً، السلفية المتزمتة، والعصرية المنفتحة على السواء؟!

وإذا أخذنا المعنى التحرري المعاصر لصفة (الوطنية) كموقف ضد السيطرة الأجنبية، وضد القوى المحلية المرتبطة مصالحها بالمصالح الأجنبية والرأسمال العالمي.. ألا نكون بهذا، قد أغفلنا (أو غفلنا عن) الجوانب المعرفية والإبداعية في النتاج الثقافي عموماً، بما في ذلك الثقافات التي تضخها أو تنتجها هذه القوى الرأسمالية التابعة، والطبقات المسيطرة؟

أجدني أميل إلى القول إننا نأخذ الجانب التحرري الديمقراطي والمعرفي في مجمل النتاج الثقافي في بلادنا، فنرى فيه صفة الوطنية، باعتبار: أن الثقافة الوطنية، أولاً، هي مختلف ألوان الثقافة والإبداع المنتجة في إطار العام لحركة التحرر العربية، الهادفة إلى التحرر من التبعية والهيمنة المطلقة لدول الرأسمالية العالمية، وإلى ترسيخ الديمقراطية، والتفاعل مع حضارات الشعوب الأخرى ومنجزاتها الحديثة، والخروج من واقع التخلف إلى أفق التقدم والعدالة الاجتماعية.

ففي داخل الوطن هناك، إذاً،ـ ثقافة وطنية ديمقراطية تحررية، ولكن هناك أيضاً، وبالتمازج مع هذه الثقافة الوطنية، ومن موقع الهيمنة غالباً، ثقافة تعبر عن مطامع ومصالح البرجوازيات المحلية التابعة، المرتبطة بمراكز الرأسمال العالمي، وتروّج لقيام الرأسمالية وخلودها، كنظام عالمي، كما تروّج، بالأخص، للجوانب الرجعية والنخبوية في ثقافة بلدان المركز، وتتماهى بها، وتتغاضى عن واقع الشراسة والوحشية في السيطرة والاستثمار الرأسمالي المعولم، وتبرره باسم التقدم وبدعوى الدخول في عصر (ما بعد الحداثة) هذا.. فهي، إذاً، ليست ثقافة وطنية، وبالأخص ليست ديمقراطية، من حيث أنها تسعى، عبر السلطة، وتعمل على ترسيخ التبعية وقمع النتاجات الثقافية الوطنية المغايرة لها، وتستعين بمختلف أنواع الأجهزة، داخل الدولة وخارجها،  لتهميش هذه الثقافة المغايرة، وتتفيهها.

معنى هذا أننا لا نميل إلى اعتبار الثقافة الوطنية هي كل نتاج ثقافي، بإطلاق، في بلد معين، فلا نميل، تالياً، إلى إطلاق مفهوم الثقافة الوطنية على مجمل تلك الثقافات التي تضخها الطبقة البرجوازية التابعة والسائدة.

.. ولكن، لا بد من التأكيد، هنا، على أن حقل الثقافة الوطنية يأخذ، بالضرورة، وعليه أن يستوعب، كل ما هو معرفي وعلمي وإبداعي من النتاج الثقافي لجميع طبقات الأمة وفئاتها على اختلاف المواقع والمواقف الأيديولوجية، ويدرجه في السياق العام لتطور هذه الثقافة الوطنية ولحركة التحرر الوطني والتوحيد القومي والتقدم الاجتماعي.

 

الطريق ـ العدد الثالث ـ 1998

العدد 1105 - 01/5/2024