الوعي الذاتي والخلفية الثقافية

 

يعد جهل الإنسان بنفسه أشد أنواع الجهل خطورة، ونظراً لأن النّفس البّشرية لغز كبير، نحن بحاجة إلى أدوات جيدة تساعدنا على معرفة أحوالنا الخاصة، والوقوف عند إمكاناتنا الكامنة، وحقيقة المشكلات التي نعاني منها، والمصاعب التي تواجهنا.

ومن يعرف نفسه من خلال الوعي الذاتي، يعرف كيف يسيطر على نوازع هذه الذّات، وعلى بيئته وعلاقاته.

 يُعرّف الوعي الذّاتي: بأنه ما يحصل في دماغ الفرد أثناء صحوه أو أحلامه، من خلال الشّعور والإحساس به، ويُطلق على المنطقة التي يحدث فيها الوعي ساحة الشّعور أو سبورة الوعيّ، أو الذّاكرة العاملة، أو النّفس، أو الأنا الواعية، أو الذّات المدركة.

من الثابت معرفياً أنه لم تقم نهضة لأمة، إلاّ وكانت الثّقافة في قلب مشروعها، كما لم تتخبط أمة في حالات الانتكاس والتّقهقر، إلاّ وكانت مسألة الثّقافة في قلب وجودها للخروج من مأزقها، واستعادة مكانتها وانطلاقها.

 لا يمكن لأية أمة أن تعيش وتتميز في ظل اجتياح العولمة، طالما لم تخلق لذاتها قوة، ولم تبدع قيم تعبر فيها عن وجودها التّاريخي الحاضر، إذ إن الخصوصية الثّقافية للمجتمعات تشكل أحد الثّوابت المرجعية التي يمكن لكل مجتمع أن يخلق منها قيمه المرجعية، غير أن هذه الثّوابت لا ينبغي أن تتحول إلى أطر جاهزة، أو مقررات عقائدية مغلقة، أو نظم أيديولوجية ومعطيات لوجودنا بصورة حرة عقائدية مغلقة، أو نظم أيديولوجية حيّة مفتوحة على الأحداث والتّطورات، بشكل يخرجنا أكثر قوة وفاعلية وحضوراً.

الحياة والحريّة والسّعي في طلب العدالة الاجتماعية، هي حقوق أساسية للإنسان استمدها من خلال تراثه الشّفوي، ليكون السّلوك كله غير واضح، فالوعي نتاج اجتماعي، لا ميداناً خاصاً للإنسان المستقل فحسب..

 فكثيراً ما يحكم على الثّقافات بمقدار تشجيعها للملاحظة الذّاتية، وخير مثال يستذكر من التاريخ القديم لحضور المثقف، ما كان سقراط يحظى بالإعجاب به، لأنه كان يعلّم الناس بالأسلوب الاستقرائي أن يبحثوا في طبيعتهم الخاصة، كون ملاحظة الذّات ليست سوى مدخل إلى العمل..

 لمعرفة النّفس قيمة كبيرة، تبعاً لأنها تساعد في التّلاؤم مع الطّوارئ التي برزت في ظلها… وجاك آن ميلر، المحلل النّفسي الشهير يدلل على ذلك بقوله (نحن نحب ذاك الذي يجيب عن سؤالنا من نكون)

أما فرويد فيقول في هذا السّياق: إن كل إنسان تعشش فيه ميول هدامة، وبالتّالي مناهضة للمجتمع والثّقافة، هي قوية بما فيه الكفاية لتحدد سلوك عدد كبير من النّاس في المجتمع.

فالوعي عند فرويد يمثل إحدى معطيات التّجربة الفردية التي تطرح نفسها على الحدس المباشر، وهو لا يعود لوصفه بدون أي مكافئ لها، إذ لا يمكن تفسيرها، ولا وصفها، فلدى كلّ إنسانٍ يجري تيارٌ منَ الوعي مستمرّ، ومُتكامل، لا يُشاركه فيه أيّ إنسان آخر.

لقد تمسك فرويد من خلال أعماله كلها، بنظرية مداها الوعي بعمليات التّفكير وترابطها مع تّعابيرنا اللفظية.

(فرويد) أظهر الوعي في النّظام الإدراكي عوضاً عن آثار الذّكريات الدّائمة.

وقد أوضح ذلك في مقالة له بعنوان: الأنا والهو عام 1923 والتي تتضمن:

أن الحياة الثّقافية إذا ما نظرنا إليها في حقيقتها المتعددة الأوجه والأبعاد، فهي تشكل بعداً من أبعاد الحياة، حاضره موضوعي واع في حياة كلّ منا كبشر، بحيث لا تعود الثّقافة ميداناً معزولا، أو لا تقدر أن تكون تعبيراً عن اهتمامات مجردة حقيقية محسوسة، بل تغدو تطلعاً ايجابياً واعياً، يفتح بنفس الوقت آفاقاً غير محدودة لتظهر إمكانات كل فرد في تفعيل هذه الوظيفة الجديدة، والتّجديدية للثّقافة، كونها عنصرا جوهريا في إحياء البلدان وإعمارها…

ويبقى أهم ما تعنيه الثّقافة، يتمثل في توكيد ذات الفرد في جميع الأدوار الاجتماعية، من خلال إيجاد علاقات جديدة بين الفرد والمجتمع، وإشراك الجميع في تقرير جميع الشّؤون التي تهمهم، وتنفيذها أيضاً.

إن بحث الأفراد في البلد الواحد على تحسين وعيهم لأنفسهم، من خلال تطوير قدراتهم باستمرار، وزيادة معلوماتهم العامة، وتجاوز الحدود التي يفرضها التّخصص في حياة المجتمع الحديث، يُبرز لنا غاية وأهمية الوعي الذاتي في توظيف المكتسبات المعرفية في مواقف الحياة.

فلتكن الثّقافة مطلب للجميع، يشاركون فيها، ذلك لأن ثقافة أي أمة تشكل سمات مواطنيها، فالثقافة أولاً وآخراً، تقوم على أساس أن الإنسان ليس ناقلاً للقيم الثقافية فحسب، بل هو صانعها ومبدعها، وبذلك يخلق منها قيما جديدة تتناسب مع متغيرات الواقع، ولنتذكر أن الإنسان يحقق المعرفة والإدراك الذاتي عبر المعاناة.

العدد 1105 - 01/5/2024