الجبهة الثقافية.. عولمة ثقافة الكاوبوي

لقد خاض جيلنا معركة التحديث، فهو خلافاً للأجيال الصاعدة التي لم يتسنّ لها التمييز والمقارنة لأنها نشأت وترعرعت  تحت ضغط الثقافة الواحدة المفروضة على العالم فقد كنا أيضاً شهوداً على الانحدار الهائل من زمن الثقافة التقدمية اليسارية الحية إلى زمن عجز الثقافة وهذيانها.

إن صورة هذا الانحدار المخيف، تتضح عندما نحدد سمات الثقافة التقدمية الإنسانية بأنها ثقافة تنموية تتمحور حول إغناء الإنسان معرفياً ومشاركته في الفعل الثقافي، إذ يجتمع فيها حقلا الإنتاج الفكري والممارسة معاً، أي (الثقافة والسياسة) ويتولد عن اجتماعهما أقوى طاقة للتغيير الاجتماعي، وهنا تصبح الثقافة، الجبهة القوية وراء الحقيقة والعدالة وتقدم الشعوب، ولهذا السبب الجوهري ولأن تقدم الشعوب المؤمنة بالعدالة والمدركة للحقيقة يعني بشكل أو بآخر فناء الرأسمالية وزوالها فقد حتم ذلك على حراس الإمبراطورية  امتصاص الخطر الداهم والانقضاض عليه بجبهة مضادة هي صورة عن طبيعة الليبرالية الوحشية الجديدة وتعبير عنها ونتاج لها، ثقافة كاوبوي ورعاة بقر وعكداء ومهووسين بأساطير ماضوية ومتخمين وكسالى ولا مبالين، ثقافة ليست جريمتها أنها استهلاكية (غير جوهرانية) رجعية ومنحطة  فقط بل كونها موجهة كأشد الأسلحة فتكاً بوعي الشعوب، ثقافة تقوم على الفصل الميتافيزيقي بين ظاهرتي الثقافة والسياسة بهدف تفجير طاقة التغيير وإنتاج الخمول والبله الاجتماعي المطلوب حتى  لنخب مثقفة قد تنخرط طواعية تحت إغراء التأقلم مع الوقائع الجديدة، ووهم المعاصرة والقدرة على استيعابها أو لأسباب مادية فتغيّب نفسها عن كل فاعلية ثورية في الحقل الاجتماعي لتنشط في حقل ثقافة معزولة تعمل لذاتها وتدور داخل حلقاتها المفرغة.

هذا التسفيل المنهجي للثقافة قد أدى على الصعيد الغربي الداخلي إلى ضرب طوق أمني على الوعي الثوري وإمكانات التغيير، وشل حركة الثقافة التقدمية النقدية الحية وقدرتها على تحريك الشارع الذي بات يصرف احتقاناته عبر مجرى عبثي فوضوي يرتفع فيه ضجيج النزعات اليمينية الرجعية والفاشية المتطرفة، وبات الصراع على القيادة السياسية للمجتمعات الغربية يجري بين قوى مختلفة ومتنوعة (تعددية) شكلاً بينما في مضمونها وفي مجملها هي قوى محتواة داخل المنظومة الرأسمالية وتخدم هدف بقائها وديمومتها، وفي مقابل هذا الضمان للحصن الداخلي لعدة عقود قادمة على الأقل من مخاطر أية خضات اجتماعية محتملة، فقد تفرغ النظام العالمي الجديد لفتح الجبهة الثقافية على العالم، وقد ساعد على ذلك بشكل كبير انهيار، الكتلة الشرقية وتفككها، والنجاح الباهر للدور الذي لعبته وسائل الاتصال الحديثة في ضرب وعي شعوب تلك الكتلة دينياً وعرقياً مما جعل من هذه الوسائل رأس حربة مشروع أمركة العالم (وقد أكد الرئيس الأمريكي السابق ريغان عزم بلاده تطبيق تكتيكات العمل الإعلامي العالمي لجهة تكريس التضليل والتزوير كسياسة معلنة ما أطلق عليه مبدأ ريغان (إدارة الإدراك الحسي) وهو توجه ما زال الإعلام الأمريكي يمارسه دون خجل، إذ تقوم المخابرات الأمريكية والبيت الأبيض وسواهما بإملاء التوجيهات للإعلام) (راجع مقالة سعد القاسم (جريدة الثورة 6 حزيران 2015)، ولهذا الغرض نظمت شبكة معقدة من الأقنية الواصلة بين وسائل الإعلام والجهتين المذكورتين، إضافة إلى وزارتي الخارجية والدفاع ومراكز البحث المكلفة تدريب جيش كبير من الصحفيين والمروجين موزعين في كل أنحاء العالم لتثبيت أيديولوجيا العولمة والدفاع عنها، وتجميل صورتها، والتعتيم على الثقافة التقدمية اليسارية ورموزها.

الدكتور رزق الله هيلان صور الوضع على أنه (بروز الطبيعة الإرهابية المخيفة للتقدم العلمي والتقني عندما ينحرف ليخدم نزعة القوة والغطرسة) (راجع كتاب التنمية والثقافة في زمن العولمة) كما بحث الدكتور عبد الإله بلقيز في تفاصيل العولمة الأمريكية مؤكداً أنها ثقافة، سمعية بصرية، تحتوي معنى التلقين وتغييب قدرات العقل التحليلية وضخ كميات هائلة من المعلومات المضللة غير آبهة لحدود واستقلالية وسيادة الكيانات الوطنية ولا لهويات مكوناتها ولا لأية قيم أخلاقية وجمالية، وقد وصف بلقيز هذه الطبيعة الإقحامية بأنها اغتصاب ثقافي وعدوان رمزي على سائر الثقافات وبين كيف تحول الوعي إلى مجال مستباح لأنواع الاختراق وبشكل خاص مع التراجع المريع لمعدلات القراءة (راجع العولمة والممانعة) يذكر أن نسبة التأليف في العالم العربي لا تتجاوز ثلاثة كتب لكل مليون عربي حسب التقرير السنوي الصادر عن المنظمة العالمية للملكية الفكرية سنة 2008 فلنتصور إذاً مدى فداحة الضرر وقوة التأثير وسهولة غسيل دماغ شعوب هي أصلاً غير مسيسة ويهيمن على وعيها تراث غيبي طويل قاتم.

عقد التسعينيات من القرن الماضي شهد فضيحة ثقافة العولمة الأمريكية الـ (ما بعد حداثية) المعادية والكانسة للأيديولوجيات حسب مظهرها الخارجي وأطروحاتها ومرددي شعاراتها فقد أتاحت الأجواء الحضيضية  العالمية لشخصيات نخبوية متناقضة وعنصرية التربع على عرش المشهد الثقافي من نوع فرانسيس فوكوياما  وصمويل هانتنغتون وهما أهم نتاج لـ (ما بعد الحداثة).

فوكوياما سارع عام 1992 إلى اعتبار انهيار الكتلة الشرقية بمثابة برهان قاطع على أن التاريخ قد انتهى رأسمالياً وعلى الشعوب أن تلحق بالقاطرة الأمريكية التي تجاوزت التاريخ أن تطبق نموذج السوق الحر إذا أرادت الخلاص وكان فوكوياما مطمئناً أن العالم لن يشهد بعد الآن حروبا أو ثورات لأن خصوم الولايات المتحدة قد انتهوا.

هذه المغالاة الأسطورية داسها التاريخ نفسه بعد أول صدمة مالية وكل ما فعلته أنها أعادت مؤلفات كارل ماركس إلى واجهات المكتبات، فقد تذكر الجميع أن مصير الرأسمالية وشكلها الحالي كان كل من ماركس وأنجلز قد توقعاه ووصفاه منذ القرن التاسع عشر بأنه منطق لرأسمالية محضة لا يعمل أبداً من أجل العدالة الاجتماعية وبينا المعضلة التي ستواجه الدول التي ستكون محرجة بين خيارين حول الأولوية هل هي للفاعلية أم للمساواة (راجع كتاب واشنطن والعالم ص64)؟

سقوط فوكوياما السريع ليس هو الفضيحة الكبرى بل أطروحات أستاذه صمويل هانتنغتون  النصير أيضاً للتفوق الأمريكي وضرورة تعميم النموذج  الأمريكي على العالم، فقد رأى في التعددية الهائلة الموجودة في العالم خطر على أمن الولايات المتحدة، وهو بعكس تلميذه بشر بعنف قادم لا محالة بين الحضارات وليس الدول (عنف ليس عسكرياً واقتصادياً فقط بل على خلفية القيم والثقافات التي تعتنقها الشعوب (مبرراً موقفه بما هو أسوأ من البشارة ذاتها إذ يقول أن الأمر لا يتعلق بـ (الغرب ضد الجميع) بل بـ (الاسلام في مواجهة المسيحية واليهودية) (راجع كتاب واشنطن والعالم ص 61-62 ).

إن ما لم يفصح عنه البروفسور هانتنغتون في تبريره هنا عاد وكشفه مقال له منشور أواخر التسعينيات بعنوان (تأكل مفهوم الأمن القومي): (يجب أن تخلق أمريكا مخاطر خارجية لإعادة تماسك المجتمع الأمريكي والحفاظ عليه والإسلام هو الخطر الجديد الذي سيحل محل الشيوعية).

إن عدة استنتاجات رئيسية يمكننا بناء على ذلك تلخيصها:

أولاً – الغرب (مؤسسات وليس شعوباً) ضد الجميع  فهو الذي يخلق المخاطر الخارجية.

ثانياً- منظور فاشي عنصري وحشي وإجرامي أن تقتضي ضرورة تماسك المجتمع الأمريكي تفكيك المجتمعات كافة وتمزيقها والتضحية بأرواح ملايين البشر.

ثالثاً- هانتنغتون طرح تبريراً نظرياً يؤمن اعتياش النظام العالمي الجديد على ديناميكية صراع دامي مصطنع بين الأديان.

رابعاً- هانتنغتون يؤمن بأن القضاء على مخاطر الصراع الطبقي على النظام العالمي الجديد بسهم مسموم بعنوان: (صراع الحضارات الذي يمدد بقاء وهيمنة هذا النظام).

خامساً- خطاب هانتنغتون يفضح التبعية الثقافية المطلقة للسياسة الأمريكية ويؤكد أن معاداة هذه الثقافة ما بعد الحداثية للأيدولوجيات الأخرى، وخاصة اليسارية لم يكن إلا مظهراً لحرية زائفة لأن الهدف الحقيقي من المعاداة هو أن تحل محل تلك الأيدولوجيات الأيدولوجيا اللبرالية الجديدة منفردة.

سادساً- يعتبر التقاء الثقافة والسياسة هنا استخداماً سياسياً عنفياً للثقافة لغايات غير تنموية ولا معرفية مضادة لتطلعات البشرية لعالم يسوده الأمن والعدل والسلام.

إن اطروحة هانتنغتون التي أعلن فيها فتح الجبهة الثقافية على شعوب العالم ودوله ومؤسساته وكياناته هي صورة تعكس السياسة الأمريكية، من جهة دعمها للأصوليات الدينية المتطرفة في العالم من جون فوستر دالاس إلى بريجنسكي مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس كارتر إلى ريتشارد هاس المشارك في عملية صنع القرار الأمريكي كمدير للتخطيط في وزارة الخارجية من عام 2001 الى ،2003 والذي صرح لقناة cnn إن الشرق الأوسط كله سيواجه حروباً دينية (سنشهد عقوداً عديدة من الصراعات داخل حدود كل دولة وخارجها إلى جانب حروب بالوكالة تندلع في وقت واحد وهذه النيران لديها الكثير من الحطب القادر على تغذيتها) كما كتب ريتشارد هاس عام 2006 مقالة تزامنت مع محاضرة ألقاها برنارد لويس في إسرائيل قال فيها: (ما يبشرنا به ريتشارد هاس أن التيار الوهابي السني والإيراني الشيعي سيتصارعان طويلاً. راجع مقال صلاح المختار: صنميات قرن الخداع الشامل).

العدد 1105 - 01/5/2024