د. نايف بلّوز.. وعقلانية ابن رشد

د.نايف بلوز، أستاذ جامعي معروف، ولد في ريف دمشق ـ قطنا، عام 1931. عمل أستاذاً في قسم الفلسفة لسنوات طويلة في جامعة دمشق. وكان  عضواً فاعلاً في جمعية البحوث والدراسات..

عاش في قلوب المئات وأفكارهم، من طلابه الجامعيين الذين ساهموا في الحركة الفكرية العربية.

تميز باهتمامه بالفلسفة والبحوث الفكرية ذات الصلة بالواقع العربي المعاصر. وقد ساهم منذ عام 1950في حوارات فكرية متميزة. كان مدافعاً نشيطاً عن حرية الفكر وحق الإنسان في الحياة الكريمة، وعن حق وطنه سورية في تعزيز استقلالها السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي.

كان د. نايف بلوز يؤمن دائماً أن العقل هو الذي يجب أن يحل المشاكل التي نواجهها في حياتنا. ويجب العودة إلى العقل، لا إلى النصوص الجامدة، وأن تفهم النصوص على أساس العقل وهذه من قواعد التفكير الماركسي، ومن صلب التفكير التقدمي الذي يعلّمنا إياه تراثنا، هكذا فهم د. نايف الدور الذي لعبه ابن رشد في التاريخ واستيعابه لمشاكل عصره، ونظرته الشاملة إلى الحياة والإنسان والعقل والمجتمع. كما فهم الدور الذي قام به لينين بتحليله تحليلاً عميقاً للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ولأبعاد الصراع التاريخي الحضاري، في ضوء الفكر الماركسي.

التفاؤل بالمستقبل، وحتمية انتصار الاشتراكية ورفض التشاؤم

 يقول د. نايف بلوز: (يعلمنا ابن رشد أن نكون متفائلين، وتعلمنا الماركسية أيضاً هذا الدرس: إن تجاوز التخلف والعجز والتمزق والظلام ليس أمراً مستحيلاً).

لم يتشاءم نايف بلوز، وما تأثر سلباً بما جرى، فهو يفهم الذي حصل تاريخياً، يقول:

(إن الاشتراكية لم يحالفها الحظ سياسياً وأيديولوجياً بالبقاء. إن الاشتراكية وهي النظام الاجتماعي المهزوم واقعياً مرشحة أو هي قيد الترشيح  مجدداً تاريخياً للتحقيق، وإن الرأسمالية، رغم كونها المنتصرة واقعياً الآن على الاشتراكية، محكومة تاريخياً بالزوال.

وليست العلة في النظام الاشتراكي لكنها في القائمين على هذا النظام في قيادة الحزب البيروقراطي الذي وُجد.

ومنذ عام 1968 ونايف بلوز يحمل همّاً رافقه حتى وفاته، إنه همّ فلسفي وهو يقف وجهاً لوجه أمام أكبر فلاسفة العرب لإبراز الفهم الصحيح والدقيق لأفكار ابن رشد، نظراً للأهمية الكبيرة لهذه الأفكار، وتصحيح ما كتب عن هذا المفكر منذ عشية عصر النهضة في أوربا وحتى  وقتنا الآن.

والسؤال: لماذا اهتم نايف بلوز إلى هذا الحد بأفكار ابن رشد؟ وماذا تعنينا فلسفته؟

إذا عدنا إلى بحث نايف بلوز العميق والشيق (ابن رشد بين العقلانية والأيديولوجيا).

الذي وضع لمساته الأخيرة قبل أيام من وفاته عام ،1998 نجده يقول:

(لا نزال نحن العرب اليوم نواجه مشاكلنا في وضع لا يتسم بالتحديد الدقيق الشامل لأبعاد الصراع التاريخي الحضاري الذي يمثّل كما يقال اليوم إشكاليتنا. إن قراءة ابن رشد اليوم لا تلغي تخلفنا، ولكنها تدعونا إلى القول إن تجاوز التخلف والعجز والتمزق والظلام ليس أمراً مستحيلاً.

وهي لا تربطنا بالماضي بل إنها تشدنا إليه وتضعنا وجهاً لوجه، أمام مشاكلنا الراهنة، وتدفعنا إلى أن نعيّن بدقة دور ابن رشد في الصراع التاريخي الذي نشب في عصره وعصور أوربا اللاحقة. وإلى أن نتعرف على مدى استيعابه لمشاكل عصره، وعلى أهمية نظرته الشاملة إلى الحياة والإنسان والعقل والمجتمع، وتحفزنا على دراسته وتقديمه وتعيين دلالة وظيفته الفلسفية في عصره والعصور اللاحقة، بما فيه خطابه لنا الآن).

العقلانية في فلسفة ابن رشد

ويلاحظ أن أكثر ما كتبه نايف بلوز حول فيلسوف قرطبة يدور معظمه حول (العقلانية في فلسفة ابن رشد)، وهي عقلانية خرجت عن أطرها الأفلاطونية والأرسطية على حد سواء، وصانت الفلسفة من سياج العقائد التي أريد لها أن لا تخالف عقيدة، مسيحية كانت أم إسلامية. ونجحوا في فترة ما فكانت نكبة ابن رشد، إلا أن د. نايف كشف النقاب عن عقم التمسك بالحرف يونانياً كان أم عربياً وفتح، بحرية التأويل، آفاقاً جديدة للعقل.

كتب نايف بلوز يقول: (إن للحوار مع ابن رشد وجهين مختلفين ومتداخلين، الأول يتحدد بانتمائه إلى مجالنا الحضاري الإسلامي وتحوله إلى جملة أفكار وقيم ومعان توجيهية خاصة يحفظها التراث القومي للعرب الأحياء، أما الوجه الثاني فتوفره مشاركتنا في المضمون الإنساني الشامل الذي تنطوي عليه الرشدية. والذي يفصح عن لحظة من الجهد الإنساني التاريخي المتواصل لإعلان بدء استعادة جدارة الإنسان وتأكيدها وتوقيع دائرة حريته، وابن رشد في هذين المجالين لم يكرر أحداً. فقد قرأ أرسطو والفلسفة القديمة قراءة حررت الأرسطية من عدد من التشوهات والالتباسات وطورتها تطويراً حاسماً في جوانب عدة، فمهّد بهذه القراءة للانقلاب العلمي – الفلسفي الذي جرى على يد غاليله وديكارت وبيكون. كما تصدى للغزالي وأهل الجدل والمتكلمين ومعظم الفقهاء، فأنجز تحولاً أو قطيعة أيديولوجية مع فكر الجمود والتزمت والإذعان).

يقول نايف بلوز: (إن عقلانية ابن رشد تتجلى في التوجه الإيجابي إلى الحياة الأرضية والثقة بطاقات الإنسان الجسدية والعقلية)، ويضيف:

(لقد ابتعد ابن رشد عن المثل الأعلى التأملي اليوناني المتأخر، وتمسك بالمثل الأعلى الحضاري الإسلامي الذي يتوخى التقريب بين النظر والعمل، داعياً إلى تعلم العلم الحق والعمل الحق. وإن قناعة فيلسوف قرطبة تكمن في أن الحياة المدنية السياسية هي وحدها الجديرة بالإنسان. وهو نادي بدولة مركزية قائمة على الاعتدال وذات أسس تحدّ من الصفة المطلقة لسلطة الحاكم، ويحتكم فيها إلى القانون كي تكون منظمة تنظيماً عقلانياً).

وابن رشد كما يقرأ بلوز: (إن للفيلسوف والعالم مكانة يرشد منها الحاكم ويوجهه وتحقق للناس الإصلاحات الثقافية والاجتماعية بعيداً عن أفكار المتكلمين من الشعراء والفقهاء. فيتحرر الناس من تسلطهم ومن التضليل الذي كانوا منساقين وراءه في تبعيتهم لهم. كما نادى ابن رشد بالعلم والمعرفة طريقاً إلى السعادة، ونبذ الخرافات والأوهام، وتحرير المرأة من عبوديتها.. للرجل).

وفي مؤلفات نايف بلوز كلام كثير عن (فترة التنوير الإسلامي). وربما هو أول من أطلق هذه التسمية على عصر ابن رشد (النصف الثاني من القرن الثاني عشر).

ويحدّد التنوير هنا بتحرير النزعة العقلانية من القيود النقلية وطموح إلى تكوين نظرة علمية إلى العالم والمجتمع. وحينما يصف النكبة التي لحقت بابن رشد عام 1194 يقول عنها إنها إيذان ببدء الانحسار الحضاري الإسلامي وانطفاء مشعل التنوير.

كان نايف بلوز ماركسياً، هو ماركسي في منهجه العلمي، وتحليله للتاريخ وللواقع الاجتماعي.

وهو ماركسي أيضاً في انتمائه السياسي، وفي تصوره الدقيق لآلية تحرر الوطن العربي، فهل كان ماركسياً في وقفته وجهاً لوجه مع فكر ابن رشد أيضاً؟! نعم لقد دخل د. نايف على المنظومة الفكرية الرشدية بأدوات التحليل الماركسي ووصل بهذه المنظومة إلى أبعاد لم تعرفها من قبل. وأثر انتماؤه إلى الفكر والمنهج الماركسي في فهمه لفلسفة ابن رشد.

قد يكون أسهل طريق لتقصي هذا الموضوع متابعة حواره مع المفكر الكبير حسين مروة صاحب كتاب (النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية)، حيث نجد أطر تفكير نايف بلوز الماركسي واضحة المعالم.

تميزت شخصية نايف بلوز بالمواقف الصلبة على الصعيد السياسي بشكل خاص، غير أن هذه الصلابة كانت تخفي وداعة وتواضعاً مدهشاً، وكان لديه حب أصيل للإنسان لكل إنسان، أما حبه للفلسفة فكان يفوق كل شيء.

كان محباً للحكمة إلا أن موقفه من الفكر والفلسفة بشكل خاص لم يحمله على إعطاء الفيلسوف حق القيادة، ولم يعتبر نايف بلوز نفسه يوماً قائداً، كان أكثر تواضعاً مما يصفه الذين عرفوه، وخاصة طلابه الكثيرون الذين حملوا له كل احترام والتقدير بسبب نزاهته في عمله الأكاديمي، وتعلموا منه كيف يمكن أن يحافظ الإنسان على إنسانيته، والمفكر على أصالته، والمناضل على مبادئه، والأستاذ على مركزه دون أن يستجيب لضغط الواقع الذي ينتمي إليه ودون أن ينحني أمام رموزه.

كان د. نايف بلوز في مجمل نشاطه المعرفي مفكراً تقدمياً تنويرياً بامتياز..

له العديد من المؤلفات منها:

ـ ابن سينا ذروة تطور حضاري. جامعة دمشق، 1971.

ـ علاقة الله بالعالم في فلسفة ابن رشد، 1998.

ـ وقفة مع كتاب (النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية للدكتور حسين مروة، 1979.

ـ الماركسية والتراث العربي الإسلامي. 1980.

ـ صراع الأجيال وصراع الطبقات، 1973.

ـ إضافة إلى العديد من الكتب الجامعية خاصة في مجال الفلسفة.

العدد 1104 - 24/4/2024