كوني ولادتي الجديدة…

أعدي لي الأرض كي أستريح/ فإني أحبكِ حتى التعب.. أناديكِ قبل الكلام/ أطير بخصركِ قبل وصولي إليكِ/ فكم مرة تستطيعين أنْ تضعي في مناقير هذا الحمام/ عناوين روحي/ وأن تختفي كالمدى في السفوح…

محمود درويش

ــ1ــ

أيتها المرأة التي لا أعرف.. كوني الأخضر والأزرق.. كوني صديقة قلبي، حبيبته الجذلى.. وكوني صفصافة روحي.. فأنت معناي ومبناي، وأنت نخلتي الأزلية.. أيتها المرأة التي لا أعرف (صلينا نصلك في هذه الدنيا فإن المقام فيها قليل..) دعيني طيراً في ملكوتكِ العالي، ودعي نصفك الأيسر نرجسة في تربة عمري.. كوني ما شئت، فأنا منكِ وأنتِ مني حتى ما بعد انطفاء الأكوان…

ــ2ــ

لسببٍ واضح.. غامض.. رمادي.. يتطاولُ ليلي.. يسرقُ شكل المَقْبَرة.. ترفّ في صدري قُبَّرةٌ نوّاحة.. أتكوّر في فراشي.. أرتجفُ.. يمتد أنيني.. يحتلني الشجن.. تحاصرني الغربة والوحشة.. يطاردني وجد محروق بالذكرى وبالماضي.. يسكنني القلق الوجودي.. أهذي.. أغفو كطفل وديع على ألم وجيع.. أصحو على فراغ، ووحدة، وحلم لا يطال.. أغمغم: هل أضحى ولد النار رماداً..؟ أتبدل الوقت، وحل الزمن المالح.. أغطّانا اليباب..؟ هل أمسيتُ غريب الروح و(الوجه واليد واللسان)؟ أصارتْ (نفسي تشتهي نفسي ولا تتقابلان)؟ والكلّ مندحر، والجزء ممتثل، وأنا الطالع من أتون الهجرة الأولى قابل للجنون الجليل..؟!

ــ3ــ

أيّتها المرأة التي لا أعرف.. حنانيكِ، حنانيكِ.. المدى دامعٌ وحزين.. وخاصرتي نازفة، وجهات العالم الأربع سادرة في ليل بربري طويل، طويل..؟ أيتها المرأة حنانيك.. عمري شَرَدَ ريشة عصفور في مهب الريح.. أعيديه..! وأرجعي طفولتي التي غادرتني، مذ كنتُ أحبو، دونما أعذار..! ردّي إليّ فرحتي التي سُرقت منّي منذ مقتل كليب، وطرفة بن العبد، والملك الضليل، وأبي الطيب المتنبي.. وفرج الله الحلو، وغسان كنفاني، وكمال ناصر، وفرج فودة، وأنطون سعادة… غدراً وخسّـة وغيلة (..؟!)، ومنذ مصرع (الفاروق) و(الأمير)، وسقوط الحسين شهيداً كونياً في كربلاء (..؟!) أعيدي كينونتي وحضارتي اللتين صادرهما الفكر الظلامي السكوني المتواتر الذي ما فتئ ـ (وما يفتأ) يعمل على تحطيم ومحاربة أية نزعة إصلاحية أو تجديدية مستنيرة منيرة.. وأيّ فكر عقلاني إنساني تقدّمي وعلماني ناقد.. من زمن ابن رشد، وحقبة طه حسين و(النهضة العربية).. إلى أيام اغتيال صبحي الصالح، وحسين مروة، ومهدي عامل، وجورج حاوي، وانتحار خليل حاوي.. وصولاً إلى هذه اللحظة الحاضرة الفاجرة من حياتنا العربية(…).

ــ4ــ

أيتها المرأة التي لا أعرفُ.. كوني بُوصلتي الباصرة، ونهاري المضيء، وكوني بصيرتي النافذة، فأنا مُحاصر بالرؤى الأحادية الجانب  وبكل ألوان الفكر الإقصائي، والفكر الميتافيزيقي (الذي ينفي حركية الفكر وتطوره، ويحكم عليه بالجمود والثبات..) والفكر التسلّطي (السطحي) التسطيحي، المنافق والمخاتل والمعادي للديمقراطية.. وأنا مُحاصر بكل أشكال الفساد والاضطراب الأخلاقي والقيمي والذممي (نسبة إلى الذمّة: الحق والحُرْمة والعهد والأمان..) وبكل مخرجات التردي الإداري والمالي والمجتمعي والاقتصادي والسياسي والثقافي…

ــ5ــ

أيتها المرأة التي لا أعرف.. دثّريني بحبّك الحاني، وردّي عليّ لحاف مشاعرك النبيلة، وعواطفك العليّة، ولغاتك الدافئة، وعُطورك المستحيلة.. لا تتركيني وحيداً، ولا تتركي قلبي ينبض على فراغ.. اعصفي بي حتى القاع، وكوني ولادتي الجديدة.. جرديني من وجعي وأنينيني وغربتي ووحشتي وهجرتي.. فكّري بي كثيراً، وانسني كثيراً، وما بينهما أطبقي عليّ جفنيكِ مثلما أغمضُ عليكِ عينيّ، فأنتِ بدايتي وخاتمتي…

ــ6ــ

أيتها المرأة التي لا أعرف.. سلام عليكِ، سلام عليّ.. سلام على روحٍ مثقلة بالحنين وبالجوى.. تسري في فضاءات جسد كليل يهمي.. يذوب.. يسيل في حنايا الليالي الشريدة، في جنبات هذا الخراب المقيم…

ــ7ــ

أيّتها المرأة التي لا أعرفُ.. أتراني كبرتُ على لغة الحبّ، وعلى أبجديتك الخضراء الفريدة..؟ أشعر أنني (مكسور) حتى السماء العاشرة..؟!

العدد 1105 - 01/5/2024