شفيق جبري رجل الصناعتين

قليلة هي تلك القامات التي غادرتنا ولكن ظل طيفها باق إلى حاضرنا ومستمراً في مستقبلنا.. وإننا نجزم بأن شفيق جبري هو أحد تلك القامات الهامة التي كان لها أثر كبير في تراث الحركة الفكرية النهضوية في تاريخنا العربي المعاصر، وإن كان لقبه في الحياة رجل الصناعتين فذلك أن شفيق جبري كان ذا غنى في إنتاجه الأدبي الذي تنوع بين الشعر وأدب الرحلات والتحليلات السياسية والنثر الأدبي الصحفي، إضافة إلى مجموعة من الدراسات الأدبية التي تناولت عدداً من الشخصيات الفكرية والإبداعية القديمة والمعاصرة له من أمثال أبو الفرج الأصفهاني، المتنبي، محمد كرد علي، أناتول فرانس وغيرهم.

وتأتي أهمية شفيق جبري في أنه ينتمي إلى حقبة تاريخية اتسمت بطابع التوتر المستمر، فكما كانت المنطقة على الصعيد السياسي ساحة صراع كانت الحركة الفكرية النهضوية آنذاك مسرحاً لكل التيارات الثقافية التي أعطت تلك الفترة الممتدة منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى أوائل القرن عشرين تسمية عصر التنوير في العالم العربي، فشاعرنا، الذي ولد في عام 1898 (ويقال 1897) في مدينة الياسمين، دمشق، والتي ارتبط اسمه باسمها طيلة حياته، ينتمي إلى جيل الرواد الأوئل، رجالات الفكر الذين عايشوا أهم المتغيرات السياسية التي عصفت بالبلاد وحاولوا من خلال نتاجهم الفكري على اختلاف مشاربه من أن يعكسوا صورة صادقة لتلك المرحلة وأن يعالجوا مسائل العصر المطروحة أمام مثقفي تلك الحقبة. في خضم هذه الصراعات السياسية والفكرية التي استهل بها القرن العشرون، وجد شفيق جبري شأنه شأن الكثير من أدباء تلك الفترة في إحياء التراث وسيلة للتخلص من نير الاحتلال الفكري والثقافي الذي حاول العثمانيون فرضه أولاً ثم الفرنسيون وقد ارتبط هذا التيار مع ظهور الفكر القومي العروبي على الساحة الفكرية والسياسية، وظهور حركات التحرر العربي من الاستعمار، ولعل هذا ما يبرر ذلك الأطار الذي أحاط به جبري قصائده الشعرية، والتي تجعل القارئ يشعر بأنه أمام قصيدة كلاسيكية ولكن بأسلوب حديث. لقد عبر جبري عن قناعته في هذا التوجه من خلال كتابه أنا والشعر الذي طرح فيه طريقته في النظم مكرساً بذلك فكرة (بوالو) بأن الشعر القديم هو المنارة التي يجب أن يستهدي بنورها الشاعر فـ (الشعر يولد من الشعر). ومن هنا نجد أن جبري وإن أضفى على تجربته مساحة من الحرية في الصياغات الشعرية، غير أنه بقي متمسكا بالموروث اللغوي والأنساق الشعرية التقليدية التي بقيت على مر العصور كنزاً مستودعاً في الذاكرة، يجري استحضاره من خلال ثورة النفس وقدرتها على التعبير عن إبداعها وفرادتها في إعادة صياغة الحاضر بما يتفق مع مخزونات الماضي.

وقد تجلى ذلك في معارضاته الشعرية لكبار شعراء العربية المعاصرين والقدماء ففي قصيدة (وطني) ذات المطلع (علـّـموه كيف يـَـعنو فـَـعـَـنا) نلمح منذ البيت الأول معارضة صريحة لقصيدة شوقي:

علموه كيف يجفو فجفا ..|.. ظالمٌ لاقيتُ منه ما كفى

وفي قصيدته (أغنية المغلول) يعارض جبري قصيدة مصطفى صادق الرافعي بعنوان (ترقيص طفلة)، إن هذا الارتباط بالقديم لم يسقط عن شاعرنا صفة المجدد، فلقد استطاع جبري أن يرتقي بالشعر إلى مرحلة أخرى وأن يوظف الكلمة في خدمة القضايا المصيرية والملحة آنذاك، لقد آمن بالكلمة كسلاح ثوري قد يساهم في التغيير، فالشعر والفكر والعواطف بالنسبة له لا تنفصل عن الدعوة للحرية والانعتاق، ولعل هذا ما دفع شاعرنا ليكتب في ذيل قصيدة (ليتني) والتي مطلعها:

ليتني يا حمامة البان غري ..|.. دٌ أغني كما يغني الحمامُ

فأناجي الضياء في وضح الصب ..|.. ح ونجواي في الظلام الظّلامُ

(ما أظن أن الأدب يقدس شيئاً تقديسه للحرية في مجامع صورها، وهذه الأبيات إنما هي تَغَنٍّ بالحرية، فالأدب لا تنضر أزاهيره إلا في ظلال الحرية، والأمة التي لا تذوق نفحة الحرية، لا يلبث أن تجف ينابيع الأدب فيها).

لقد دافع شفيق جبري بالكلمة الشعرية عن حرية المرأة والرأي ووطنه، وهو الذي أسس شهرته على أيقونة الوطن والذات والوجدان، إنطلاقا من إيمانه العميق بأن وظيفة الشعر ليست فقط أن يعبِّر عن الذات واللحظة التاريخية العابرة بل أن يعبِّر عن الحياة بماضيها وحاضرها، لذلك لم يكن عبثاً أن تصبح قصيدته في جلاء المستعمر الفرنسي عن الأراضي سورية أيقونة تردد في شوارع دمشق وعلى ألسنة شيبها وشبابها:

حلمٌ على جنَباتِ الشامِ أمْ عيدُ ..|.. لا الهمُّ همٌّ ولا التسهيدُ تسهيدُ

أتكذبُ العينُ والرايات خافقةٌ ..|.. أم تكذبُ الأذنُ والدنيا أغاريدُ

لقد استطاع جبري أن يسمو بالشعر الكلاسيكي إلى مرحلة جديدة.. وأن يخلصه من الأنماط التقليدية وأن يعالج بلغة تحمل في طياتها جزالة الماضي وبساطة الحاضر أكثر المواضيع إشكالية في تلك الفترة. وأخيراً لا بد أن نذكر بأن شاعرنا لم يضع حدوداً لمعرفته فكان دائم الدأب في البحث عن كل ما هو جديد مستنداً في ذلك على ثقافة موسوعية عالية المستوى، وموهبة فطرية فذة جعلته قادراً على الربط بين اتجاهاته وفلسفته، وبين اتجاهات عصره الفكرية والفنية والأدبية والسياسية ليقدم إرثاً غنياً ومتنوعاً ليس مجال الشعر فقط بل في مجال النثر بأشكاله المختلفة.

العدد 1105 - 01/5/2024