عن القرية الكونية.. وحبال الود المقطوعة

إن نظرة متأنية لما يحدث في مغارب هذه الأرض، وفي مشارقها، في جنوبها، وشمالها، يؤكد أنه رغم كثرة وسائل الاتصال هذه، فإنّ (حبال الودِّ) بين مختلف البشر، بقيت مقطوعة، أو كلٌّ يشدّ الحبال باتجاهه، حتى لم يبق حبل إلا وانقطع. أي أنها زادت من سوء التفاهم بين الشعوب، بين أبناء الشعب الواحد، وحتى بين أبناء الضيعة الواحدة.. !!، صحيح أن وسائل الإعلام، والاتصال، والتواصل الحديثة، زادت من معلومات الشعوب إلى درجةٍ كبيرة، وحملت كل فرد إلى موقع الحدث، وإلى بلاد أخرى بعيدة، أياً كان نوع هذا الحدث، وأينما كان هذا الفرد في أية بقعة من هذه الأرض.. غير أن الصحيح أيضاً، أن الحروب، أو التهديد بها، ازدادت، بكل أنواعها، كما ازدادت الخلافات بين الشعوب، وكذلك النزاعات إلى درجة التطهير العرقي، وحتى الإفناء الكامل بكل شراسة..!

عن الضيعة الكونية

الأهم في سمات الألفية الثالثة – كما بات معروفاً – كانت (الثورة) الهائلة في تكنولوجيا الاتصالات، ووسائل الاتصال، التي جعلت مقولة (القرية الكونية) الأكثر استهلاكاً وترديداً منذ الأيام الأولى للقرن الحادي والعشرين. صحيح أن بعض وسائل الاتصال تفقد بريقها، والكثير من قوتها، كما يحصل اليوم للصحافة الورقية، وحتى الإذاعة، غير أنه يكاد لا يمر عام، إلا وتبرز وسيلة اتصال أشدّ قوة، وأكثر جماهيرية. ولعل وسائل التواصل الاجتماعي، منذ بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، كانت الأكثر جذباً وجدلاً في هذا المجال..! لكن.. هل حقاً جعل تكاثر كل وسائل الاتصال وتناسلها هذا العالم (قرية كونية صغيرة)؟ وإذا تحقق ذلك، فهل جعل سكان هذه (القرية) أكثر تواصلاً، ومن ثم أكثر تفاهماً ؟!!

كل المؤشرات تدل على عكس ذلك، أما لماذا لم تستطع وسائل الإعلام، والاتصال، والتواصل، المذهلة في حداثتها، إنشاء التفاهم المنشود بين الشعوب، والحكومات، والدول، فذلك سؤال مازال مفتوحاً، بل ثمة من يضع المسؤولية الكبرى على هذه الوسائل، في أنها زادت من الفرقة والتفرقة، بدل أن تكون مهمتها العكس، والأمر يرجعه الخبراء والمحللون، إلى وقوع تلك الوسائل بيد قوة السلطة، والسلطة هنا لا تعني الحكومة، أو على الأقل سلطة الحكومات فقط، بل أياً كان شكل هذه (السلطة): المال، النخبة، الحكم، الرعاع، الدينيون… ذلك أن أجهزة الإعلام صارت أضخم من أن يقوم بها فرد عادي من الناس، أو حتى حزب بأكمله، لأن مشروعاً كهذا يكلّف مئات الملايين من الدولارات..!

السطوة الهائلة

يكفي اليوم ، أن تقول حكومة الولايات المتحدة أي أمر، حتى لو كان كاذباً – وهو غالباً كاذب – حتى يكثر اللغو فيه في عشرات الوسائل الإعلامية، والاتصال، والتواصل، وفي عشرات البلدان والدول، والعزف على الإيقاع نفسه، حتى (يصير الكذب حقيقة) أو أشبه بالحقيقة..! ثمة سطوة هائلة، بل ومهولة على الناس طول الوقت، وحين تتجه هذه القوى إلى التضليل، فإن مفعولها لا يُقاوم، والسطوة هنا من قبل مؤسسة سياسية، أو اجتماعية، وحتى اقتصادية، وفكرية، وتبرز قدرتها على تكوين مشاعر الناس، وهذه القدرة تستخدمها كما تريد، فالقدرة التي تستخدمها لتلوين الاتجاهات الداخلية، هي نفسها، قادرة على تكوين اتجاهات شعب نحو شعوب أخرى كوسيلة من وسائل الصراع بين السلطة، وبين أكثر من بلد، حتى ولو كانت الشعوب لا مصلحة لها في هذا الصراع، وهي غالباً لا مصلحة لها في صراعات كهذه..!

تزداد قوة الإعلام، ومختلف وسائل الاتصال والتواصل، وهي بهذه القوة التي تكاد تكون مطلقة، تزيد الهوة، والاغتراب، والانعزال، بين الشعوب، والأفراد، وسوء استخدام هذه الوسائل، جعل من أبناء هذه (القرية الكونية الصغيرة) متناحرين طول الوقت، وعلى أهبة الاستعداد للفتك والتصفية فيما بينهم طول الوقت أيضاً..!!

العدد 1105 - 01/5/2024