محمد البزم.. وتر ليس مفقوداً في سيمفونية الإبداع

لا تنهض الذاكرة الوطنية بغير شهودها المبدعين والمثقفين بآن معاً، أولئك الذين كانوا صرحها على الدوام، فهم متنها ودلالتها والمعنى الذي تكتمل به صيرورة الإبداع، لا سيما في لحظتهم التاريخية التي تبث كل مكونات إبداعهم وتوقهم لأن يكونوا هم لا سواهم، فالذاكرة الثقافية السورية هي الحاضرة باستمرار في كل لحظات استحضارها كما تأويلها، لتبثّ للمستقبل ماهيتها ومرجعياتها المؤسسة، على المستويات الفكرية والوطنية والإبداعية وسوى ذلك، ولعل واحداً ممن ساد أنه حاقه شيء من الظلم الشاعر محمد البزم، وهو أحد شعراء المربع الذهبي (خير الدين الزركلي)، خليل مردم بك، شفيق جبري)، الذين كانوا وما زالوا في زمنهم صورة عن ثقافة شاملة، بالمعنى العضوي الذي جعلهم حراس الذاكرة بامتياز، لاسدنتها فحسب.

فهو كما وصفه أحد تلامذته: (كان مديد القامة من غير سوء، هادئ المشية في غير تثاقل، عصبي المزاج، كثير الاعتداد بنفسه، سريع الانفعال، حاد الذكاء، ألف الفصحى حتى لا يكاد يعرف غيرها لغة للخطاب، حريصاً على كرامته حرصه على حياته، عرف الناس عنه جميعاً الإفراط بالإحساس وسرعة بالتأذي، فجامله وراعى وراع مزاجه زملاؤه، متسامحاً داعياً لاحترام الديانات، فهو من قال يوماً:

وفرقانها للخير يدعو وقبله

دعا مثلها إنجيلها وزبورها

هو الجهل كم أردى شعوباً وكم هوت

بها أمم بادت فساء مصيرها

هبط أحد أجداده دمشق منذ أكثر من مئتي سنة، وأصله من العراق.. ولد بحي الشاغور بدمشق سنة 1887م، وأُتيح للفتى محمد البزم آنذاك أن يحفظ قُصار الصور القرآنية، وأن يذهب مع عمه إلى بيروت ليقتني له الأخير كتاباً اسمه المستطرف، وعليه فإن إشارات تكوينه الثقافي التي بدأت بطابعها التراكمي تعطي علامات تأسيسها على غير مستوى في الأدب والاجتماع والتاريخ والفنون لا سيما إذا عرفنا أنه دخل المكتبة الظاهرية واستطاع أن يقرأ منها ما استطاع، ودخل حلقات شيوخ دمشق ونهل منها، بل إن قربه من صديقه الشاعر خير الدين الزركلي والعلامة الشيخ عبد القادر بدران، كان دافعاً لأن يقرأ ديوان المتنبي وغيره، إذ إن الشيخ بدران قد شجعه على ذلك بأن قرأ هو أيضاً عليه من ديوان المتنبي، ولعل أكثر نوابغ دمشق آنذاك ومنهم على سبيل المثال المرحوم جمال الدين القاسمي، وصالح التونسي، وكامل القصاب، قد أسهموا جميعاً في تأسيس علاقته باللغة العربية وفنونها وبلاغتها، إذ إن الشيخ كامل القصاب قد انتدبه مدرساً للغة العربية في مدرسة العثمانية حتى قامت الحرب العالمية الكبرى، وذهب محمد البزم للجندية وأصبح كاتباً في أحد المصحات.

لكن نشأته الأدبية بما توافرت لها من عناصر موضوعية وذاتية بآن معاً، قد مكّنته من أن يصبح عاشقاً للغة العربية، بما تنطوي عليها من أصالة وأبعاد قومية وعروبية، والأدل من أن حبه للوطن واللغة العربية كانا مهماز علاقته بالإبداع التي سنرى جُل تجلياتها فيما كتبه من دواوين شعرية لافتة، أهّلته ليُنتخب عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق، ويتخرج على يديه الكثير من أعلام الأدب في سورية والعالم العربي، وأشهرهم على الإطلاق الشاعر الراحل نزار قباني. كُلّف الذكرى الألفية لأبي العلاء المعري عام ،1944 بإلقاء قصيدة. سيكتمل هنا تكوينه الثقافي ليُحرز الكثير من علامات ومسيرة مبدع سوري شغل الناس آنذاك وكان ملء الذاكرة الوطنية، ليهتف بعيد الجلاء:

للضيم في كل نفس حلها ألم

واليوم زحزح عن أرباعنا الألم

والعرب لا خنعوا مذ كان أولهم

داراتهم رغم أنف المعتدي حُرم

أنت المنى والرجاء الفخم

يا أمة طويت في مجدها أمم

 ونرى البزم في سياق آخر ينعى تغرق أبناء وطنه وتقطع أوصالهم وتخاذلهم ويرى أن الجُهال قد سادوا والعلماء قد اختفوا، يقول في قصيدته:

يا أيها الوطن الذي عبثت به

أبناؤه فترأست جهاله

وتفرقت شيعاً به أبناؤه

وتخاذلوا فتقطعت أوصاله

وعندما رُفع العلم السوري في دمشق عام ،1918 قال:

يا أيها العلم أخفق فوق أربعنا

فأي قلب لدى مرآك لم يجب

أذكرتنا العهد عهد الفاتحين بني ال

سفر البواسل نسل السادة النجب

لما رفعت وجيش الترك منهزم

خلنا الطوائف تقصوا الروم في هرب

لا زلت تعلو ربوع العُرب ما طمحت

بهم نفوسهم للسبعة الشهب

وإبان الاحتلال الفرنسي لسورية قُبض عليه بتهمة إثارة الرأي العام ضد الفرنسيين ويسجن سبعين يوماً، كما حكم عليه بالسجن عاماً مع وقف التنفيذ، وفي ذلك كتب قصيدته التي يقول فيها:

أبناء غالية لا كان انتدابكم

فقد أسال دماء العُرب غدرانا

لا ترهقوا العرب فالعرب الكرام لهم

إن أرهقوا وثب الضرغام غضبانا

دعوا الشآم وخلوا القاطنين به

ويمموا غير ذي الأوطان أوطانا

هو إذاً عاشق العربية التي رأى فيها مجد العرب، وظلت أيامه دفاعاً عن هذه اللغة التي رآها أجمل اللغات، يقول محمد البزم:

يودون وأد الضاد سراً وجهرة

وينكؤهم إن قام للضاد مفخر

ومن الواضح أن الشاعر شديد التمسك بما أرساه الأوائل من شعراء العربية الفحول، من تقاليد الكلمات ومعجماتها، واستخدامه للألفاظ الجزلة القوية ذات الجرس اللافت، وهذه تقاليد مشى عليها شعراء العصر الأموي والعباسيين الذين امتازوا بنصاعة الكلمة وطاقة الجملة الحاذقة، لا سيما في استثمارها بلاغياً وحيازة كل أساليب الكلام.

 ومن أجمل ما كتبه محمد البزم قصيدته عن دمشق وفيها يجلو حبه الكبير لدمشق وفخره بها جمالاً وتاريخاً وفتوحاً، وعدد أبياتها مئة وستة وثلاثون بيتاً يقول فيها :

رفعت على حرم الخلود بنودا

ومضت تحلق في الإباء صعودا

ألقت إليها الأرض مقود أهلها

ورمت إلى أبطاله الإقليدا

تجري العروبة في نفوس رجالها

مجرى النفوس ترائباً ووريدا

ودّت أباطح مكة وصعيدها

 لو كنَّ منك أباطماً وصعيدا

لقد جرب الشاعر محمد البزم كل أساليب الكتابة فلا عجب أن ذهب إلى اللزوميات والغزل والفخر والحماسة والهجاء، فهو الشاعر النحرير، الذي رأى ذلك التماهي العجيب بين اللغة العربية والأمة، ليذهب أكثر من ذلك رائياً للغة الضاد بوصفها منطلق الهوية وبيانها، فقد اجتمعت في زمنه حوامل شتى ليكون شاعراً منتبهاً إلى ما تتركه اللغة من أثر، وما تستحدثه من مواقف، وليس أدل على كتابته في موضوعات مختلفة سوى فهمه للغة بوصفها أيضاً تجلياً لروح الإنسان السوري، على الرغم من ضياع واحد من أهم دواوين الثورة العربية، ومعلوم أنه فترة الاحتلال العثماني كان يودع أشعاره أمانة لدى أمه – لكن المفارقة أنه لا يجد شيئاً مما استودعه، وهكذا لم يُتح له نشر آثاره ومؤلفاته التي كان من أهمها (كتاب اللحن-النحو والواقع- الجحيم- الجواب المسكت- الديوان) وغيرها، وفيها تظهر عنايته الفائقة بالنحو العربي وطرق تدريسه التي أثرت كثيراً في أساليب تلامذته ومجايليه لتكون المكون الأول لثقافتهم وإبداعهم.

محمد البزم هو بحق شخصية دمشقية لا تتكرر بوصفه أحد أعلام النهضة اللغوية والأدبية في سورية، وبمواقفه الدالة الرافضة للمشاريع الاستعمارية والكشف عن المؤامرة على سورية من قبل حكومة فيصل العسكرية، وبعد تعرضه لتجربة الاعتقال آنذاك لأسباب سياسية وفكرية، قال في قصيدته السجن وهي واحدة من عيون القصائد:

لا السجن يردعه ولا أغلاله

عن غاية تسمو لها آماله

مقتوه إذ نقموا عليه جلاله

فسعوا به كي لا يبين جلاله

فذلك الشآمي المستنير علماً وثقافة سيظل بحق واحداً من شهود الذاكرة الوطنية، بل امتداداتها المخترقة للزمن، ذلك أن التنوير لحظتئذ كان هاجس مجتمع رفض أن يكون تحت النير، وظلت عيونه ترنو للنهوض ليأتي الشعراء دالة على ذلك النهوض، وطليعة وعي في تلك الأزمنة التي مازال صداها يتردد برجع الفكر والمواقف والمعرفة المؤسّسة كحال الشاعر السوري الكبير الراحل محمد البزم، والأجيال التي أسست على مُنجزه كما أسس هو بالذات، والذين كانوا في خط دفاعهم عن اللغة العربية والهوية والتاريخ والحضارة، صورة عن الدفاع عن سورية العربية في كل تحولاتها التاريخية ومساراتها عبر الزمن، فهم روح الأمة وبيان عبقريتها، واتصال ماضيها بمستقبلها، اتصالاً يغتني بالخصوصية بقدر ما هي وعي بالمكان والذاكرة، ويغتني أيضاً بالأثر الدال على حيوية الشعر بوصفه موقفاً من الذات والعالم، بل رؤية روح متوثبة نحو الخارق والمجهول، هكذا في سيرة محمد البزم بما حفلت به من مواقف وأمثلة لا حصر لها لا تُستنفد من ذاكرتنا ومن محكيات الإبداع وجدلياته في آن معاً، نبقى في حيز استلهام الينابيع التي جعلت من الشعر تعبيراً عن حضارة روح مشدودة بالضرورة إلى منظومة القيم والمثل العليا، وهي المتطيرة من أن تقرأ في زمانها فحسب، بل بما تتعداه لأزمنة تشغلها أسئلة النقد في الالتزام والكتابة والوعي والثقافة الوطنية، التي بثتنا إياها مسارات محمد البزم في جغرافيا الشعر والحياة ووقفات العز.

العدد 1104 - 24/4/2024