الساخر أحمد إبراهيم… مفتخراً بذنوبه ومعترفاً بعيوبه

لفنّ السخرية وقعه الأحلى على الذائقة وللفنانين الساخرين مكانتهم الأعلى لدى الذوِّيقة

لمـّا كان للفن الساخر خصوصيته، فيما يتطلب من شروط أولية، ذاتية وموضوعية، لا يأتي أكله من دونها، فقد احتفظ هذا الضرب من الفن، بقيمته الناهضة ومذاقه المرغوب، المتناسبيين طرداً، مع مياز سوقه وندرة بذرته.

لقد عرف العرب والعالم مشاهير الساخرين، قديماً وحديثاً، منذ غوغول والجاحظ، إلى مارك توين ومحمد الماغوط، إلى جورج برناردشو وحسيب كيالي وعادل إمام ودريد لحام وأحمد الجندي ووجيه البارودي ومحمد الحريري وغيره.. وغيره..

فيما بقيت أسماء ساخرين، قد لا يقلُّون موهبة عن الذين تقدم ذكرهم، غير أن حظهم من الشهرة، لم يجدوا له من يحسدهم عليه.

من الأخيرين، أي غير المحسودين، يطالعنا في الفن الساخر، الشاعر السوري الراحل (أحمد إبراهيم عبدالله درويش)، ابن  قرية (عين اللبن) من محافظة اللاذقية.

إلى ما تعتمر به روح (أحمد) من محبة، يراها الأصل والقاعدة، فيما لا يتجاوز ما عداها من عواطف، حدود الاستثناء. فهو منحاز أبداً إلى الهجاء الساخر، لصالح مثاقفة المهجو، ونقده، وتصويب أخطائه، بعيداً عن المديح المجاني، الذي كثيراً ما يغرِّر بالممدوح ويفاقم أنانيته. في الوقت الذي قلَّما يخرج فيه المادح، عن نطاق التكسُّب والتملُّق، وفي أحسن الأحوال عن المجاملة، ولنستمع إلى أحمد إبراهيم، يقول في إحدى قصائده:

هيهاتِ أنظمُ في المديح قصيدةً

إنَّ المديحَ تكسُّبٌ وتملُّقٌ

ولقدْ عرفتُ الناسَ بعدَ تجاربٍ

فالناسُ أجدرُ بالهجاءِ وأليَقُ

ولعل البيتين السابقين، يعطيان القارئ انطباعاً أوَّلياً، عن مزاج صاحبهما. الذي يصفه العماد المتقاعد مصطفى طلاس، بأنه: (كان يعشق الحرية، ولأنه حرُّ الرأي، كان لسانه ينطلق مع سجيته، وسجيته مرسلة غنية، غزيرة المادة لا تنضب..).

من يطلَّعُ على أشعار أحمد درويش، سواء منها، قليلها المنشور، أم كثيرها، الذي لم تدركه يد النشر. تتكون لديه فكرة عامة، عمَّا كان يتمتع به، من سريرة طيبة، وسخرية لاذعة، وفنيّة لافتة. فها هو ذا الدرويش، يضج به الشوق إلى رفيقة قلبه، ذات يوم من أيام (منع التجول)، التي تعاورت سورية بُعيد الاستقلال. فيقول:

لئنْ قرّروا منعَ التجوِّلِ عندَنا

وخالفَ طيفانا قرارَ التجوِّلِ

فطيفكِ في عيني سجينُ مدلَّلٌ

وما سمحتْ عيني لهُ بالتنقُّلِ

لمـّا كانت السخرية طبعاً، يعي المرء نفسه به، ينتظم سائر أفعاله وانفعالاته وردات فعله، تُجاه الآخر، أشياءً وأحداثاً وأحياءَ، ومنها شخص الساخر ذاته، وكانت فترة الأربعينيات والخمسينيات من القرن الفائت، في سورية،  فترة حراك ديمقراطي وسياسي، (وكان الأقربون أولى بالمعروف)، فلم يقصّر شاعرنا بإيفاء أصدقائه ورفاقه (سليمان العيسى.. صدقي اسماعيل.. وهيب الغانم.. مصطفى طلاس…. وغيرهم) حصتهم وحقهم، من أُملوحاته، المعروفة عنه، ومازال حتى اليوم يرددها أهل المنطقة والظرفاء أدباءً وسياسيين، مثل توصيفه الحارّ للرفيق ميشيل عفلق:

وأعرَقَ في عقيدتهِ

وأشأَمَ مثلما أعرقْ

ويجلسُ خلفَ مكتبهِ

ويتركُ بابَهُ مغلقْ

ويفصلُ بينَ مكتبهِ

وبينَ ضيوفهِ خندقْ

ومَنْ يأرقْ ويسمعهُ

يحاضرُ لمْ يَعُدْ يأرقْ

فيما يخص الراحَ والملاحَ، وما يتصل بهما من أجواء وأهواء ورغاب. لم يخرج ابن (عين اللبن) عن ديدن سواد الشعراء في إيثارهما والولاء لهما. وفي ذلك يقول:

يا حبذا كأسٌ منَ العرقِ

في كلِّ مصطبحٍ ومغتبقِ

مهما اختلفنا في الهوى فِرقاً

فالكأسُ تجمعُ سائرَ الفِرقِ

استناداً إلى ما بين أيدينا من إنتاج الأديب أحمد إبراهيم الدرويش، يحدونا استنتاج أنه، قلما شغله الشعر كهاجس وهدف، بقدر ما اهتم بالفكرة وبوصولها إلى المتلقي، واضحة بسيطة وطريفة.

كثيرة هي، أشعار أحمد إبراهيم درويش، التي زاوجت بنجاح ما بين الجد والمزح، وجمعت بتآلف بين الفكاهة والسخرية والنقد والهجاء والمدح، رغم تبرّؤ صاحبها من اللون الأخير. ولئن اكتفينا هنا بما تقدّم، فالعذر.. بل الذنب، ذنب الشاعر، أَوّلاً، لأنه لم ينشر كل أشعاره..وذنب أولي الأمر وذوي الصلة والمهتمين، ثانياً..

وأخيراً وليس آخراً، ذنب محرر هذه السطور، الذنب الذي أفخر به مع شاعرنا الراحل ز أحمد ابراهيم عبدالله درويشز موضوع هذا المقال، حين يفخر بذنوبه، في واحدة من (همسات)، ديوانه الوحيد الصادر له حيث يقول:

وإن أفخر بشيء في حياتي

فإني دائماً فخري ذنوبي

وما أقسى الحياة على بنيها

إذا الإنسانُ عاشَ بلا عيوبِ.   

العدد 1105 - 01/5/2024