رجل اسمه غسان كنفاني

صباح  يوم السبت الثامن من شهر تموز عام 1972 كانت الشمس  مشرقة  في سماء بيروت ، وكان غسان كنفاني مع أفراد أسرته، زوجته الدانماركية  آني،  وولديهما فائز وليلى،  وفائزة شقيقة غسان وابنتها لميس حسين نجم، وآمنة ياسين البطلة الحقيقية لرواية أم سعد التي كتبها غسان كنفاني سنة 1969.كانوا يشربون قهوة الصباح  ويتبادلون أطراف الحديث كعادتهم. وقبل أن يغادر غسان كنفاني البيت متوجهاً إلى مكتبه في مجلة الهدف التي تصدر ها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة الحكيم جورج حبش، أصلح القطار الكهربائي لابنه فائز،  وكان على لميس أن ترافق خالها إلى وسط العاصمة بيروت للمرّة الأولى منذ وصولها من الكويت، فقد كانت تُعدّ العدّة لزيارة أقربائها في بيروت، وكانت قبل حين قد فرحت لوصول خبر قبولها لدراسة الطب في جامعة عمّان عاصمة الأردن، لكنها لم تُفلح في الوصول إلى هناك أبداً،  فما هي إلا دقيقتان على وداع غسان ولميس لأفراد الأسرة حتى دوّى انفجار مريع هزّ أركان البيت.

تَصِفُ أم سعد تلك الدقائق المرعبة من حياتها قائلة: كنتُ إلى جانب النافذة المطلة على الحديقة أحمل كوب الحليب وبجانبي آني، وفجأة دوّى انفجار رهيب، أوقع الكوب من يدي، تحطم زجاج النوافذ وتناثرت شظاياه في أرجاء البيت، أسرعتُ وسحبت آني كنفاني من تحت الزجاج المتناثر دون أن أدري حينها أن الزجاج تداخل في جسدي كله، هرولت دون وعي نحو الشارع، كان المشهد يدمي القلب، فقد استحالت سيارة غسان كنفاني الصغيرة إلى  أشلاء متناثرة، حملتُ دثاراً لتغطية جسد  لميس المشتعل بالنيران ، ثم بحثت عن غسان فوجدته بين ألسنة النيران مفتوح العينين مقطوعاً من وسطه، إحدى قدميه داخل السيارة والأخرى تسلقت على شجرة زيتون قريبة، يده إلى جانب الحائط في حين لم أجد يده الثانية، بدأت أتفحصه، قلبه كان ينبضُ، والوجه وحده بقي سليماً تلوح من قسماته ابتسامة حزينة، لا أعرف كيف أتيتُ بكيس ورحتُ أجمع فيه أشلاء هذا الرجل الفلسطيني.

وفي مساء يوم الفاجعة قالت ليلى بنت غسان كنفاني لأمها:

ماما، سألتُ البابا أن يأخذني معه في السيارة لنشتري شوكولاته، لكنّه كان مشغولاً، فأعطاني لوحاً كان يحتفظ به في جيبه، ثم قبلني وطلب مني الرجوع إلى المنزل، جلستُ على درج بيتنا لآكل الشوكولاته، وحصل دويّ كبير. لكن يا ماما، لم تكن تلك غلطة بابا، إنَّ الإسرائيليين هم الذين وضعوا القنبلة في سيارته، فمن يكون هذا الفلسطيني الذي مزقت إسرائيل جسده بالمتفجرات ؟

في بيروت

قرّر غسان كنفاني ترك الكويت والانتقال ليعيش في بيروت، مع أن السنوات الست التي قضاها في الكويت ـ حيث كان يُدرّس الفنّ والرياضة ـ كانت جزءاً هاماً من حياته، إذ كتب فيها أجمل قصصه، نذكر منها (موت سرير رقم 12 أرض البرتقال الحزين، كعك على الرصيف، القميص المسروق)، وقد أحصيتُ له ست عشرَة قصة كتبتْ في الكويت.

حين انتقل إلى العاصمة اللبنانية بيروت انغمس في عمله انغماساً كلياً، وكان قد ترسّخ في حقلي الكتابة والصحافة، وفي سنة 1963 عُرض عليه منصب رئيس تحرير جريدة المحّرر اليومية، وما لبثت هذه الجريدة أن أصبحت ثاني أكبر جريدة يومية في لبنان واتسع انتشارها في بلدان عربية أخرى، وعمل في مجلة فلسطين الأسبوعية، في هذه الفترة التقى بإحدى الصحفيات الأجنبيات وطلب منها الذهاب إلى فلسطين وأعطاها عناوين بيوت أهله وأقاربه وبعض أصحابه، ومن هناك أرسلت له صحفاً من داخل الأرض المحتلة إلى بيروت، تعرَّف من هذه الصحف على شعراء الأرض المحتلة، وفي أحد أعداد مجلة فلسطين وضع بخط يده قصيدة الشاعر الفلسطيني  محمود درويش  (سجّل أنا عربي) على غلاف المجلة.

في أيلول سنة 1961 جاءت طالبة دانماركية من بلادها إلى دمشق، ثم إلى بيروت كي تتعرف إلى واقع الشعب الفلسطيني بعد أن سمعت عن القضية العربية الفلسطينية في (جامعة الشعب العالميّة) في الدانمارك. في بيروت قابلتْ غسان كنفاني، حدثها عن أرض  فلسطين، وعن اضطراره إلى مغادرتها سنة 1948 بصحبة أهله وإخوته الخمسة. تقول آني كنفاني الدنمركية:

منذُ اليوم الأول للقائي بغسان كنفاني أحسستُ أنني إزاء إنسان غير عادي، وتطورت علاقتنا من خلال القضية الفلسطينية إلى علاقة شخصية، ورغم وضعه الذي لا يبعث على الأمان، فغسان كنفاني لم يكن يملك مالاً أو جواز سفر، وفوق ذلك كان يعاني من مرض السكري، غير أننا ما لبثنا أن اكتشفنا أن الموت وحده سوف يكون قادراً على تفريق الواحد منّا عن الآخر. وما هو إلا شهر على وصولي إلى لبنان حتى تزوَّجنا، ولم يندم أي منّا على ذلك، وكان لنا ـ كمعظم الفلسطينيين الآخرين ـ مصاعبنا الاقتصادية وغيرها. وفي كانون الأول عام 1962 لازم غسان كنفاني البيت لافتقاره إلى الأوراق الرسمية، وأثناء هذه الفترة، كتب رواية (رجال في الشمس) التي شاع صيتها معظم أرجاء العالم العربي، وأهداها إليّ، استندتْ حياتنا الزوجية إلى الثقة والاحترام والحب، ولذا فقد كانت على الدوام مَهمّة شاقة وجميلة.

وُلد أول صبيّ لنا في 24 آب سنة 1962 وأسميناه فائز، ومعناه المنتصر تيمناً باسم جدّه، لقد كنتُ شديدة التأثر بأفكار غسان كنفاني، غير أنه لم يفرضها عليّ أبداً، وهذا ينطبق على أصدقائنا الأجانب الذين اكتشفوا القضية الفلسطينية من خلاله، واهتم الكثير منهم، لاحقاً، بهذه القضيّة في بلدانهم ذاتها. أما علاقتي بعائلة غسان كنفاني فقد كانت حميمة، إذ رحّبت بي عائلته منذ البداية بكل ما امتلكت من ضيافة ودفء، وصرتُ أحب أفرادها حبّاً عظيماً. سنة 1965 دُعي غسان كنفاني لزيارة الصين والهند لشرح المسألة الفلسطينية في هذين  البلدين، ولا شك أن زيارته تلك قد أثرت فيه تأثيراً عظيماً، وبعد زيارته الثانية إلى الصين، حيث شارك في مؤتمر كتاب آسيا وأفريقيا، رزق طفلنا فائز ابن الأعوام الأربعة أختاً جميلة أسميناها (ليلى) تيمناً ببطلة إحدى أشهر الروايات الشعبية العربية، وليلى إضافة إلى ذلك اسمُ اسكاندنافيٌّ  معروف في أوساط أهل المنطقة القطبية الشمالية، أحبَّ طفليه حتّى العبادة، وغالباً ما كتب عنهما، على قصر الزمن الذي قضاه مع أولاده، فقد كان يلعب معهم مراراً ويعلمهم أشياء كثيرة ، وقلما فقدَ أعصابه، ولم يضربهما قطُّ. تجلى حبه للأطفال في مجموعته القصصية (عالم ليس لنا) الصادرة سنة 1965 وقد أهداها إلى فائز ابنه ولميس حسين نجم ابنة أخته فائزة.

في مجلة الهدف

في خريف عام 1967 عمل غسان كنفاني ضمن هيئة تحرير جريدة الأنوار التي تصدر في بيروت، ثم أصبح رئيس تحرير ملحقها الأسبوعي وغدا من المعلوم أن كل جريدة أو مجلّة يساهم غسان كنفاني في كتابة مقالاتها وافتتاحياتها يلقحها ارتفاع في مستواها وفي نسبة توزيعها، وراحت السفارة الفرنسية وغيرها من السفارات في بيروت تترجم مقالاته في الأنوار، لما تتضمنه من تحليل دقيق، غير أنه قرّر سنة 1969 أن يترك وظيفته الآمنة في جريدة الأنوار لكي يُصدر المجلّة السياسية الأسبوعية (الهدف)، مع أن مثل هذا القرار عَنى انخفاضاً في الدّخل، لكنه لم يكن  يعمل لاعتبارات ماديّة، فقد كان الإلهام الذي يدفعه للكتابة والعمل المتواصل، هو هذا الشعب الرازح في بؤس المخيمات.

في السادس عشر من تموز سنة 1969 صدر العدد الأول من مجلة الهدف  برئاسة تحرير غسان كنفاني وكان على يقين أنّ المجّلة سوف تنقل رسالة واضحة إلى الجماهير العربية والرأي العام العالمي، وكان على حقّ ، فلقد تحولت (الهدف) في السنتين اللاحقتين إلى واحدة من أفضل المجلاّت السياسية الأسبوعية في العالم العربي قاطبة، واقُتبس الكثير من كلماتها وترُجم عددٌ كبير من مقالاتها و افتتاحياتها إلى لغاتٍ أُخرى. واستمرّ في الكتابة دون انقطاع، مقدماً لمجلة الهدف الكثير من إسهاماته، وكان إلى جانب الكتابة يرسم كثيراً، ويرسم أكثر ما يرسم الأحصنة. وقد لعب الحصان دوراً مهماً في بعض قصصه ورواياته، كان يقول: إنّ الحصان بالنسبة لنا نحن العرب  يرمز إلى الجمال والشجاعة والأمانة والذكاء والصدق والحرية، أما لوحات الأحصنة التي رسم أكثر من عشرين منها في الأعوام الأخيرة التي سبقت رحيله فهي معلقة الآن على جدران بيوت عائلته وأصدقائه في اسكندنافيا والبلدان العربية وعلى جدران وبيوت الحرّاس والأطباء والممرضات الذين تعرف إليهم في مستشفى السجن، سُجن غسان كنفاني في تشرين الثاني عام 1971 بسبب مقال في مجلة الهدف، وكانت إحدى الصحفيات العاملات في مجلة الهدف قد كتبت هذا المقال ونشرته ولم يكن غسان كنفاني في بيروت آنذاك لكنه أعلن أنه يتحمل مسؤولية كل ما يُكتب في مجلة الهدف !

لقد سار إنتاج غسان كنفاني الأدبي جنباً إلى جنب مع نشاطه الصحفي والسياسي، وكان قبل موته بزمن طويل يُعتبر من أفضل الكتاب العرب والفلسطينّيين، وكان في العادة يبني القصة أو الرواية أو المسرحية في ذهنه، ثمَّ يكتبها كلها في زمن قصير، مضيفاً إليها تصحيحات قليلة فيما بعد، وكانت جميع مخطوطاته مكتوبة باليد، لقد قتلوه حين كان لا يزال ينمو ويكبر، وكان خطره على  إسرائيل أكبر من أن يتحملوا وجوده.

العدد 1104 - 24/4/2024