الأمومة والأمان النفسي

تُعرّف الأمومة اصطلاحا بأنها: علاقة بيولوجية، ونفسيّة بين المرأة ومن تنجبهم وترعاهم من الأبناء والبنات. كما هي بذات الوقت ضرورة حيويّة في المجتمع البشري، تُنمي التّرابط الرّوحي والاجتماعي، لكون الأم هي العامل الأساس في الأسرة، حيث يجد الطّفل الرّاحة والأمن التّام عندما تضمه أمه لصدرها، يلوذ ويرتمي في أحضانها عند اقتراب أي طارئ منه.

الجدير ذكره هنا: أن غريزة الأمومة Maternal Instinct) ) أقوى من الحب الأموميMaternal love))، لأن الغريزة لها جذور بيولوجية (جينية وهرمونية)، أما الحب فهو حالة نفسيّة أقل عمقاً من الغريزة، والمرأة حين تُخيّر بين أمومتها وبين بقاء ابنها حياً، تختار بقاءه حياً سعيداً ولو حُرمت هي من أمومتها ومن احتضانه ورعايته والهناء بقربه، من هنا يُفهم عطاء الأم الذي لا ينتظر مقابلاً في غالبه.

فالأمومة غريزة أقوى من غريزة الحب نفسه، لها كيمياء خاصة تبدأ في جسم الأم مع بداية الحمل، والجنين الذي يشعر بالحب ينمو ويكبر، والطفل المحروم منه تغمره كيمياء الغضب من الأم، فيقل نموه، وربما يموت في المهد. وبذلك تساهم الأمومة في نمو الطّفل الانفعالي، أي النّفسي، حيث يُمثل النمو الانفعالي الجانب الذي يُكوّن الجهاز النّفسي للإنسان، إذا ما نمت معه شخصية الفرد نمواً طبيعياً، أما إذا حدث فيه أي خلل فإن ذلك يمس الطّبع والشّخصية.

ووفقاً للنّظرية النّفسية التّحليلية، فإن كل اضطراب نفسي يُصاب به الإنسان تمتد جذوره في الطّفولة الأولى، أي في عمر ما قبل السّت سنوات، فكم نتعامل مع أمراض نفسيّة وعقلية يُصاب بها الشّخص في الشّباب وحتى الكهولة، تعود بجذورها المرضية إلى الطّفولة.

هناك علاقة وطيدة بين الأمن النّفسي والاتزان الانفعالي، الاتزان الانفعالي يعكس حالة الفرد المعبّرة عن الاطمئنان والاستقرار، والتّوازن النّفسي يظهر من خلال تنمية الشّخصية السّوية. إن الطّريقة التي تساعد الفرد على خفض التّوتر وإشباع الدّافع، والعودة إلى الحالة التي تتوازن فيها مشاعره مع المنبهات الخارجية التي يدركها، ويكون تفكيره وشعوره وسلوكه غالباً منسقاً في انسجام مع مفهومه لذاته ودافعيته لإنجاز بعض المهمات الأخرى، وباتجاهه نحو المواقف الصعبة التي يقدم عليها.

يُعد مفهوم الأمن النفسي مفهوماً شاملاً تناولته نظريات علم النفس بشكل عام، وركّزت عليه دراسات الصحة النفسية بشكل خاص، وعالم النّفس الشّهير (ماسلو، 1970) كان أول من تحدث عن هذا المفهوم، واعتبره محوراً أساسياً من محاور الصّحة النّفسية، فالصّحة النّفسية كحالة لا تعني غياب الأعراض المرضية فقط، بل هو أيضاً قدرة المرء على مواجهة الاحباطات التي يتعرض لها، أي قدرته على التّوافق الشّخصي، .. ومن غير الأم تتقبّل أبناءها في كل حالاتهم، في ضعفهم وقوتهم، في مرضهم وفشلهم، لتكون هي المعين والمعالج ..

وبذلك تمنح أمانها لولدها، ليكون معبّراً عن الحالة النّفسية والعقلية التي من خلالها تتحدد علاقة الفرد بالمجتمع، والتي تحقق له القدرة على مواجهة الاحباطات التي يتعرض لها بشكل يضمن له التّوافق.

يؤكد (كارلروجرز) في نظريته أن الأمن النّفسي هو حاجة الفرد إلى الشعور بأنه محبوب ومقبول اجتماعياً.. والأمن النفسي يتكون من شقين:

– الأول: داخلي يتمثل في عملية التوافق النفسي مع الذات، أي قدرة المرء على حل الصراعات التي تواجهه، وتحمّل الأزمات والحرمان.

– الثاني: خارجي يتمثل في عملية التكيّف الاجتماعي، بمعنى قدرة المرء على التلاؤم مع البيئة الخارجية، والتوفيق بين المطالب الغريزية والعالم الخارجي والأنا الأعلى.

إن أول ما يحتاجه الأطفال من النّاحية النّفسية هو الشّعور بالأمن العاطفي؛ بمعنى أنهم يحتاجون إلى الشّعور بأنهم محبوبون كأفراد، ومرغوب فيهم لذاتهم، وأنهم موضع حب واعتزاز حيث تظهر هذه الحاجة متكررة في نشأتها، وأن خير من يقوم على إشباعها هي الأم.

فالحضن الدافئ هو أرخص دواء لعلاج قلق الأطفال، وأن العلاج باللمس يرفع المناعة، واستخدامه لعلاج القلق والاكتئاب والألم يساعد المواليد الخُدّج على النمو والحياة، ويزيد من ذكاء الأطفال، الاحتضان الأمومي هو أرقى أنواع اللمس، فيكسبه الشّعور بالأمان والإحساس بالدفء ويزيد الثّقة بالنّفس، ويغرس الشّعور بالانتماء، ويقلل من التّوتر، ويزيل القلق ويساعد الطفل على النوم. ويبدأ الطفل يدرك ذلك بدءاً من الشّهر الأول وحتى الشهر(18 ) المرحلة المؤسسة لنمو الأنا، والتي سماها المحلل النّفسي المبدع (جاكلاكان): مرحلة المرآة، من خلال انعكاس صورته في عيون أمه بدايةً قبل أي كائن آخر ..

الأم مرآتنا وبوصلتنا مهما كبرنا، ومركزية لا نقدر على رد الانجذاب لها.. هذا هو سرّ الحياة، كما أن سرّ الأوطان هو الوطن الأم، وأبلغ اللغات التي يمكن أن يتقنها الإنسان ويعيش معانيها بعمق هي اللغة الأم… فما أحوجنا اليوم لسّن القوانين والتّشريعات التي تمكّن المرأة العاملة من أداء وظيفة الأمومة المقدسة بالشّكل المناسب والمنصف للمرأة الأم، لأن الأمومة ليست وظيفة بل هي دور ورسالة ومسؤولية كبرى، إضافة إلى إنصاف الأطفال الذين حُرموا من أمهاتهم في الحرب السّورية المجنونة والممتدة منذ سنوات، وما أكثر الحاجة لتكريم أمهات الشّهداء في بلادنا تكريماً فعلياً وليس إعلامياً، لكون خسارتهن لا يمكن تقديرها إلاّ بإعلاء قيمتهن النابعة من كونهن أمهات عشن أمومتهن وعذاباتها بصور مضاعفة..

العدد 1105 - 01/5/2024