عيد بأي حال عدت يا عيد..؟!

(إلى أبي جواد الجمّال)

((نموتُ كي يحيا الوطنْ

يحيا لمنْ؟

نحنُ الوطنْ

إنْ لم يكنْ بنا كريماً آمناً

ولم يكنْ محترماً ولم يكنْ حُرَّاً..

فلا عشنا.. ولا عاش الوطنْ))

الشاعر: أحمد مطر

الحياة والموت.. الفرح والحزن وجها الكينونة الأزليان، فالفرح والحزن، الضحكة والدمعة، منذ هابيل وقابيل وحتى آخر أشلاء طفل في سورية واليمن (السعيد حتى الفناء) وفلسطين والعراق ولبنان.. وحتى آخر طفل فارقنا إلى الأبد على شواطئ البحر الأبيض المتوسط..؟! يتصارعان.. يتناوبان.. يتبادلان الإيقاع والأدوار.. يتداخلان.. ينصهران.. يفترقان.. يجتمعان.. معاً وفي آن واحد، في وقت ومكان ما، في إنسان ومجتمع ما.. ولا يستطيع أحد كائناً من كان أن يفك هذا الارتباط الأزلي بينهما.. ويأتي العيد، بين ابتسامة الفرح ودمعة الحزن، محملاً بالأفراح حيناً ومترعاً بالحزن في أكثر الأحايين.. ترى ما الفرق بين الزمن الذي يسبقه، والزمن الذي يليه، وزمن العيد نفسه؟

العيد في أصله وجوهره مناسبة من المناسبات الدينية والاجتماعية والوطنية والقومية والشخصية.. تحتفل بها الأمم قاطبة في كل زمان ومكان وعلى مرّ العصور والأجيال لما لها في النفوس من آثار محببة ومشاعر طيبة تعبر عن سعادة في القلوب، وغبطة في الصدور، وفرحة ترتسم على الوجوه.. ففي العيد تغتسل الأفئدة بالمحبة والمودة وتبوح بالأجمل والأصفى والأنقى..

والعيد في كينونته لحظة زمنية مشرقة في عمر الإنسان والمجتمع والأمة، وبهجة حقيقية غير مستعارة تطرب لها النفس وتطمئن فيها الروح، وينبعث منها الأمل، وتباشير العيد وعلاماته تبدو واضحة المعالم على البيوت والشوارع والأسواق، والحوانيت والمخازن، فتنطق وجوه الصغار والكبار بالسرور العارم والبشر والأماني الطيبة..

ويأتي العيد بكل جلاله بعد طول انتظار.. فتزدهر الأنفس بالمحبة، وتصفو المشاعر بالتسامح، ويرقّ الوجدان بالعطف ويزور الأهل والأقرباء والأصدقاء والجيران بعضهم بعضاً ويتقدمون بالتحية الخالدة: كل عام وأنتم بخير.. وتدبّ في الحياة الاجتماعية روح جديدة دافئة، فتدور الأحاديث و«السوالف» الحانية، ويعبّر القلب، قبل اللسان، عن الأماني المشتهاة.. والأطفال بحركاتهم وألعابهم وملاعبهم ووجوهم الصبوحة يضفون على الوجود قدسية وإشراقاً، وبضحكاتهم العذبة يجعلن الدنيا جذلى.. وحلماً جديراً يستحق أن نحيا جميع تفاصيله..

هذه هي أرومة العيد وجوهره، ولكن أين نحن ـ العرب ـ منها؟ هل يتاح لأمتنا عموماً، ولسورية خصوصاً عيد كهذا؟ وهل هناك مساحة حقيقية لنا ولأطفالنا لنحتفل بالعيد احتفالاً يليق بالإنسان وبالطفولة في ظل حالتنا العربية الدموية الراهنة؟!

إنْ كانَ عادكمُ عيدٌ فربّ فتى

 بالشوق قد عادهُ من ذكركم حزنُ

وأفردتْهُ الليالي  من  أحبَّته

  فباتَ  ينشدُها  ممّا  جنى  الزمنُ

بِمَ التعللُ ؟ لا أهلٌ  ولا وطنٌ 

ولا  نديمٌ  ولا  كأسٌ  ولا  سكنُ

***

يا أيها العربي الوطني الشريف المقاوم.. يا صاحب الكرامة الوطنية والقومية والدينية والأخلاقية والفكرية.. أنا السوري، اليمني، العراقي.. المصلوب في أَتُون جهنم.. المحاصر بالقتل والحرق والإرهاب والتكفير والإقصاء.. بالأَدْعياء، والطُّلَقاء، وبائعي الأوطان.. وناهبي البلاد والعباد.. المحاصر بالمُتَأسلمين.. المُتَأمركين.. المتصهينين.. الرماديين.. كيفما التفتُ ونظرتُ، وكيفما نقّلتُ بصري وجلتُ بعيني لا أقرأ، ولا أسمع، ولا أشاهد إلا الدم.. الدمار.. الأشلاء.. الخراب.. الموت.. والصراخ والسواد والدمع الهتون.. لا أرى إلا الأطفال المحزونين، والثياب البالية المهترئة، والفقر المدقع والبؤس الشديد، والنظرات الحزينة التي تمطر ألماً وحسرة وغضباً..

لا أرى إلا البسمة التي تغتصب من الشفاه اغتصاباً، والأعماق التي تتمزق من الأسى والطوى والحرمان تمزقاً.. لا أرى إلا القهر والخوف والعيون المذعورة.. إلا الجوع والتعب والمعاناة والمعتقلات والسجون.. إلا الرصاص والتهجير و(الهِجْرة) وإرهاب الجماعات والدول المنظم.. إلا الأحقاد والعنصرية والعدوان والاحتلال والاجتياح والحصار..

أيها العربي الوطني الشريف المقاوم.. يا صاحب النخوة والشهامة والمروءة والرجولة.. أكثر الآباء والأمهات والإخوة والأخوات في سورية وفلسطين والعراق واليمن الباسل الوفي.. قد يجتمعون خلال أيام العيد تحت (سقف بيتهم) وخيمتهم.. في العراء.. والدمعة الحرى ـ رغماً عنهم ـ تسيل مرّة، وتجمد في المقل مرّات أخرى.. والغصة، لا بدّ، ستحرق الصدور.. والمرارة ستجرح الحلوق.. فالأهل والأقرباء والأصدقاء والخلان والجيران منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر (؟!!) وأفلاذ الأكباد منهم من عاش، وشهد أقسى أنواع المعاناة والعنف، وأبشع أشكال الجرائم.. ومنهم من نام في الغياب نومة أبدية..

أيها العربي الوطني الشريف المقاوم.. لا ينهض بوطننا وأمتنا سواك.. ولا يعيد جوهر العيد أحد إلاك.. فاعمل من أجل عيد نجتمع فيه على المودة والحب والفرح والصفاء والخير والحياة الكريمة.. واعمل من أجل الكرامة والحرية والعدالة والديمقراطية واحترام إنسانية الإنسان.. من أجل عالم لا ظلم فيه ولا عنف ولا إرهاب ولا احتلال ولا حصار ولا سواد..

ويا أبا الطيّب المتنبي، يا مجد جرحنا النازف، متى نستريح من هذا السؤال المرير والموجع حتى العياء:

عيدٌ بأي حالٍ عُدتَ يا عيدُ..؟

العدد 1105 - 01/5/2024