الشعراء والهروب إلى عيون الغزلان

ليس من شاعرٍ اليوم، لا يعتبر نفسه بداية التجديد والحداثة، وأنه مكتشف الغابات البكر، وبراري الإبداع العذراء، غير أنّ المتابع للمشهد الشعري العربي، منذ ما قبل الإسلام، حتى بعد مرور عقدٍ على بداية الألفية الثالثة، يجدُ أنّ القاموس الشعري في العالم العربي، يكادُ ينهل من المحترف ذاته، والسهول كأنها صارت جميعها متعارفاً عليها..!!

سهولٌ متعارف عليها

واستعراض عشرات المجموعات الشعرية اليوم، فإنه لوهلةٍ يشعر فيها المرء، وكأن كل الأمور وصلت إلى خواتيمها..حالة من العبث تسود اليوم، تجعلك تسأل بكامل الخيبة، وماذا بعد؟؟! فكل (الأشياء) فقدت دهشتها، أو لم تعد تستطيع الإدهاش، تسأل ما هذا زالكائنس الذي لم يعد يعجبه شيئ، وتحتار كذلك، هل (الإشكالية) في هذا الكائن – المتلقي، أم الأشياء ذاتها التي وصلت إلى منجزها النهائي، وأقصد ب (الأشياء) هنا: كل المنجزات الإبداعية، وعلى مختلف الصعد كلها، لاسيما على صعيد القصيدة..!

إلى اليوم لا يزالُ الشاعر العربي، يُشبّه عيون حبيبته بعيون المها والغزلان، أو بعيون البقر الوحشي، أو يشبّه وجهها بالقمر، وقدّها بالنخلة، ألا يثيرُ الأمر التباساً ما؟ هل الشاعر هنا، يتغزّل بعيني حبيبته، أم بعيون تلك الحيوانات، وقدودِ تلك الأشجار..؟! وهل ضاقت اللغة بالشاعر حتى لم يعد يجد أمامه غير هذا التشبيه البائس؟ ألا يُفترض أن يكون جمال الحبيبة الخالص، كافياً لأن يُنشئ لغةً تعبيرية ثرية، تعطي الدفع الكافي ليتغزّل بجمال عينيها، وقدّها الخالصين، بدل الاتكاء على تشبيهات، هي بنظر (العاشق) الحق، أقل من المشبّه..؟!

و..كأنّ الشاعر العربي لا يزالُ يعيش في مضارب بني عبس، أو ذبيان، ولا يزال يعبرُ الفيافي على ظهور النوق، ويرعى الظعن، و..يطاردُ نساء القبيلة عند عيون الماء..!!

زمن القبيلة

ومع أن الشعر كان الجنس الأدبي الأقدم لدى العرب، منذ زمن القبيلة العربية، بدأ الاهتمام الشديد بهذا الجنس الأدبي الذي كان يخدم السلاطين في معظم نتاجه، لاسيما في مرحلة الدولة الإسلامية، وحتى بعد انهيارها إلى ممالك، ومع تشرذم هذه الممالك، بدأ الشعر والقصيدة العربية يتقهقران، وإذا كانت القصيدة العربية وصلت إلى ذروتها مع المتنبي، فإنها بعد ذلك باتت تنعم في النظم وحسب، لا الشعر، حتى مجيء أصحاب الكلاسيكية الجديدة بداية القرن العشرين، غير أن هذه المرحلة كانت شبه منجز ضمن زمن وأفراد بعينهم، أتمت برحيل الشاعرين نديم محمد وعمر أبو ريشة، وكان أن انتهى زمن القصيدة الكلاسيكية الموزونة العمودية. ومع فضاءات قصيدة التفعيلة، ثم قصيدة النثر، تكون القصيدة الكلاسيكية قد استنفدت إيقاعاتها ومعظم جماليتها، مع ذلك فإن البعض لا يزال  يصر على تكرار الإفلاس ذاته مع كل قصيدة نظم، تماماً كمن يصر على السكن في خيمة بدوية وسط مدينة معاصرة..!

وعلى ما يرى الشاعر محمد عُضيمة، فإن اللغة لاسيما العربية، لتداخلها مع العامية، وانفصالها في آن، فهي ك(زحليطة) تورّط  صاحبها بمسائل لا تنتهي، ويعتقد أن كتابة الشعر بالعربية اليوم، وإنتاج نص مغاير جديد، وحديث، أصعب منه في أية لغة أخرى، والسبب بتقديره: تراكم خبرة هذه اللغة شعرياً على امتداد أكثر من خمسة عشر قرناً، ولا تزال مستمرة بالزخم نفسه، وبالقيم نفسها تقريباً.. إذ يكفي أن نسترجع معارك الرواد وغيرهم في خمسينيات وستينيات القرن الماضي مع (أصوليي) اللغة، حتى نكتشف أن القيم الجمالية التي حاول الرواد تجاوزها قليلاً، أي التجديد والتغيير بعض الشيء، وثمّ إثارة الزوابع النقدية حولهم، هي القيم نفسها التي كانت شرطاً من شروط الشعرية القديمة..

شعرية الهروب

واليوم فإنّ جرداً بسيطاً لعناوين المجموعات الشعرية الصادرة منذ منتصف القرن الماضي إلى اليوم، العناوين فقط ستحيلنا إلى كآبة وسوداوية، إنها شعرية القنوط، اليأس، التأفف،التبرم، وهي – بتقدير الكثير من النقاد – شعرية الهروب على أجنحة الذهنية، وإغماض العين، إنها شعرية الماضي، بثياب غير موزونة، لذلك هم يؤكدون، أن حداثتنا الشعرية محض وهم..! وهذا ما دفع صاحب (شارع الألبسة الجاهزة) منذ بداية التسعينيات لإعادة النظر في كل ما كتب سابقاً ليقول ويعيش على ضوء تفعيل الحواس الخمس التي كانت معطلة بفعل التربية الذهنية، أي إعطاء الأهمية للفكرة على حساب الواقعة، أو إلغاء الأخيرة بتجاهلها..!       

الحالة هنا لها عشرات الأسباب، لا يتسع المجال هنا لذكرها، لكن وكرهبةٍ ما، تشبه (القداسة)، هي السمة الغالبة على النظر إلى الأشياء في العالم العربي، وأعتقد أن مثل هذه (الرهبة) هي من الأسباب التي حدّت من المبادرة، والإضافات الجديدة، سواء في الإنتاج الإبداعي الخلاق، أو حتى في الاشتغال على الإبداع المتوارث.

فهذه الرؤية من التفكير، تخلق نوعاً من العطالة الفكرية، باعتبار أن الأفكار والأعمال الإبداعية السابقة منجزة، ومنتهية، وليس من مجال لأية إضافات جديدة، ولا حتى لتعديلٍ بسيط، وما على (الخلف) إلا المراوحة والسير على ما أنجزه (السلف) أو على مبدأ (أنْحُ هذا النحو).!

العدد 1104 - 24/4/2024