«أوراق روح تحترق» للدكتور حسين جمعة.. بوح الشعر لأزمنة مختلفة

آن للحروف أن يسفر وجعها وهي المثخنة زمناً طويلاً بآلامها ليكون المعادل شعراً يذهب لأغراضه الفنية، وللشعر في زمنه الآخر أن يكون خلاصة وجد بهي التصريح جذل العبارة عميق المعنى واسع الدلالة، هكذا تتجمع أجزاء الصورة لتكتمل في نسيجها هوية الشاعر د.حسين جمعة ذات قصيدة لم تبقَ أسيرة ولم يبقَ قولها أسيراً بل انفتح ليتعالق مع الموروث ويبث حداثة الرؤية، انطلاقاً من مكابدات لما تزل مركوزة في وعي الشاعر وفي متخيله اليقظ ليكتب أوراقه يأتي بها من أزمنته كلها، ويوزعها بقدر محسوب على أزمنة أخرى، بوصفه جسراً لما اُحتبس من قول وما صرحت به ذائقته ومعاناته جهراً بشعر كان له على أرض الكلام حضور مشع.

ومع د.حسين جمعة شاعراً نقف على قصائد بأغراضها المختلفة وبتقنياتها المعروفة (من العمود إلى التفعيلة) وما يميزها في الراهن الإبداعي، خصوصية وسمات تعالقت مع شرط الفن قبل أن تكون في صلب ماهيتها الشعرية وحواملها الفكرية المّؤسسة، وثمة من الخصائص التي ينبغي استقراؤها في ضوء مفهوم القصيدة المعاصرة الأكثر انتباهاً للحياة وثقافة الحياة دون أن تقطع صلتها بالموروث، لكنها في أحيان كثيرة تفارق ما استقر عن قصد، ليذهب الشاعر (جمعة) في شعرية معارضاته الشعرية، ليس من الغريب أن يعارض أصوات بعينها  لطالما مثلت في أفق الشعر العربي مدارس وعلامات، ومنها على الأقل الشاعر أحمد شوقي والشاعر نزار قباني وسواهم، واللافت هنا في ذلك المنحى هو قدرة الشاعر على توليد فيض المعاني الجديدة، المتجددة، انتقالاً من مرحلة الشعر الإحيائي ورموزه إلى الحداثة الشعرية وما ترمي إليه من قصديات المعنى والشعر والقصيدة، أي في انفتاحها الدلالي على ما يجعل من المكابدة وهواجسها المشروعة أفقاً شعرياً مغايراً لما يتسع به وله القول الشعري، إذ القول الشعري هنا، ليس مجرد نسيج لغوي يكتفي بوحدته العضوية الباهرة وبأغراضه الفنية المعروفة، بقدر ما يُنتج الدلالة الحاكمة بشرف المعنى وتعدد الأغراض، لتفيض على أزمنتها وأمكنتها الجديدة وإنسانها المعاصر بقلقها الفاعل ورؤيتها للمصير، وهي في تلك المسارات لا تنفصل عن نزوعها التراجيدي الذي يقارب بالشعر استشرافاً (المأساة الكبرى) التي ألمت بالوطن، ما الشاعر هنا إلا ذلك الرائي كما شعره، لا سيما حينما يستقرئ ويحلل ليكون الشعر هنا تلك المرايا الصادقة التي تسفر عن فجر صادق، الأدل رغم تعدد الأغراض الشعرية حضور دمشق في شعره، لتكون تاريخاً وهوية ناهضة بثقافة الحياة يقول الشاعر في قصيدته هنا دمشق: (هنا دمشق/ هنا الأحرار في بلدي/ هنا دمشق، هنا الفيحاء والحبب/ هنا دمشق هنا الأبطال تحرسها/ هنا دمشق هنا الأوطان تنتسب).

ولعل الشاعر في تنويعه على دمشق صوراً وأبعاداً وتعالقات وجدانية وإنسانية، تظل هي علامة الشاعر على أن يرى فيها قلب العواصم وسادنة الطهر إذ يقول في قصيدة أخرى بعنوان دمشق أنت الطهر سيدتي: (أشدو دمشق وتجلوني محتبها/ أنا الدمشقي من أعماقها لغتي/ تاه النزاري أنغاماً على مقةٍ/ يذرو العبير بعطر صيغ من رئة/ فيحاء، فخر بآماد وأفئدة/ المجد مجدك، أنت الطهر سيدتي)، ولنلحظ هنا كيف تمتص القصيدة نص نزار قباني السابق أنا الدمشقي، لكن هذا الامتصاص هو امتصاص الهضم والتوليد لما تقتضيه حداثة المعنى.

لكنه في قصيدة أخرى بعنوان أنا ودمشق، والتي يقول فيها: (شمس الشام تناديني أن انعتق/ طال العذاب ولز القوم في نفق/ ظلم الجهالة أعمى كل باصرة/ لما تناهبها التكفير بالأبق/ آه دمشق!! فهذي محنة نزفت/ من اليباس، من الأحقاد والنزق/ أقول ما قاله المهدي من زمن/ صبراً دمشق على الآلام والحمق)، وهنا ثمة إشارة أخرى إلى الشاعر العراقي الراحل محمد مهدي الجواهري في محاكاة قصيدته لكنها محاكاة لا تبقَ مجرد استظهار السابق وإنما تتجاوزه، لتنتج المعنى الجديد، هي الصيرورة الإبداعية العابرة أزمنتها من وعي إلى وعي، إنتاجاً لمتسع من الدلالة.

فدمشق كما في قصيدة تالية عنوانها دمشق حكاية عشق لا تفنى والتي يقول الشاعر فيها: (المبدعون توضؤوا إذ ماثلوا/ صور البديع، جرت سنى بوفاق/ والعاشقون تفيؤوا بحكاية/ تحكي الأناقة ما لها من راق/ يا شام!! يا أيقونة فياضة/ أنت الحقيقة تُجتلى بعناق) ومن الواضح أن الشاعر هنا والذي جعل من دمشق أيقونته، قد ذهب إلى أن ينثر ثقافة الحياة لتكون دمشق أغنيته وأبجديته بتاريخها الموصول خارج المحو والاستهداف، هي حقاً أغنية الشمس وذلك ما تبدى في غنائية البوح وعمق ما ذهبت إليه القصيدة لأن دمشق هي الإنسان وأنبل تجلٍ لها حينما تكون أماً كما في قصيدته أمي ودمشق والتي نجد فيها صنيعه الشعري يظل أبداً في إنتاج القيمة والدلالة والأثر والأرواح في ظلالها من يلتقطها الشعر ليماهي بينها ويعيدها إلى نهر الحياة.

ويظل الشاعر سادناً لقصيدة الوطن بوصفها كبرى القصائد إذ يستوفي في قصيدة التفعيلة وإيقاعها السريع وإشباع رويها وكثافة صورها، كل ذلك لا سيما في قصيدته مدينتي تاج المدن، إذ يقول في مطلعها: (مديني تاج المدن/ تطل من بين السحاب/ تاريخها عنوانها/ قربانها حضورها/ في الذهن يجلوها البهاء).

في شواغل الشاعر نقف على الكثير من الأغراض، وهي بتنوعها تسعى إلى أن تكون نسيج غير حكاية نسجها الشاعر تجربة ورؤية، وفي ذروة ما نسج كانت قصيدته أخوة يوسف التي يرجع بها تاريخاً ورؤية أيضاً إلى موروث الشعر ليستنبت به حداثته المتجددة في لحظة استشراف ضرورية رهصت بما حصل نبوءة دالة، يقول في قصيدته أخوة يوسف: (قميص يوسف في دم/ وتهمة الذئب البري/ في قصة فريدة/ حكاية طريفة/ فضيحة لإخوة/ يبكون فيها دجلاً/ يحكون فيها قبحهم/ وحمقهم… إلى أن يقول: فإخوة الصحراء عادوا من جديد/ أغراهم نهش الذئاب/ في زمن ديدنه/ بيع لأرض الله في كهف خرب/ من صنع حاخام لجب/ تحرسه الغربان في المدار/ يقودهم سمسار في أرض اللهب/ وفي الختام/ كل شيء منتهك/ وضاعت الأحلام في ليل مثير للعجب)، لننتبه أن تاريخ القصيدة موقع عام ،2006 ما يعني حضور الشعر في لحظة التنبؤ والاستشراف حضور ضرورته لأن يكون صوت الجوهر على الدوام.

إن أفعال التراكم التي أسفرت نوعاً قصائد متنوعة حواها ديوان الشاعر (أوراق روح تحترق) هي أفعال الشعر بامتياز، لا سيما وهو يؤسس لأزمنة أخرى، هي الأكثر استشرافاً لثقافة الحياة، ونقض القبح، ثقافة الجمال التي كانت صهيل الشعر في الديوان، وإيقاع الرؤية والمعنى والدلالة، كجوهر لاشتغال حداثي، كان السمة الدالة على الأرجح في المُنجز الأول للشاعر الدكتور حسين جمعة وما يشي به من انفتاح على تجارب الشعر كما انفتاح القول الشعري في تجليات مغايرة ديدنها الخصوصية والانتباه وما توقع به شعرية القلب والعقل بآن معاً.

 

منشورات اتحاد الكتاب العرب سلسلة الشعر (4) 2015.

العدد 1104 - 24/4/2024