جـلجامش …أولى ملاحم التاريخ

جزء من دراسة عن علاقة النص الملحمي بالنص المسرحي

 أصبحت شخصية (جلجامش) بعد أن تم العثور على أوديسة العراق الخالدة (هو من رأى) في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، نموذجاً إنسانياً خالداً نهل منه الكتاب على مر العصور. ومنذ اكتشاف هذه الملحمة التي تعود إلى نحو2500ق.م لفتت نظر علماء الآثار واللغات والتاريخ وحظيت باهتمام كثير من الأدباء والشعراء والمسرحيين في عدة بلدان، ولاسيما بعد أن ترجمت إلى كل اللغات الأساسية ومن بينها الروسية، وفي سورية وحدها كتبت دراسات عديدة حول هذه الملحمة، كما ترجمت أكثر من مرة وكان لها نصيبها في المسرح أيضاً، إذ تناولها كل من الشاعر نذير العظمة، والكاتب وليد فاضل في نصين مسرحيين مختلفين من حيث التوظيف والرؤية، ولعل ذلك يرجع إلى جملة من الأسباب أهمها:

1ـ أنها أقدم نوع من الملاحم البطولية في تاريخ جميع الحضارات، فهي حتى في آخر نسخها المنسوبة إلى الشاعر (سين ـ لقي ـ أونيني sin – leqi – unninni) والتي وصلتنا من القرن السابع ق.م، تعتبر أقدم من أول نص إغريقي وصل إلينا بأكثر من 1500 عام، كما أنها أطول وأكمل ملحمة عرفتها حضارة الشرق الأدنى.

2ـ معالجتها لقضايا جوهرية في النفس البشرية ما زالت تشغل فكر الإنسان وتؤثر في عواطفه وحياته كمشكلة الموت، وما بعد الموت، والصراع بين الفناء وإرادة الإنسان في التشبث بالحياة والوجود.

ـ كونها تشكل أحد أهم المصادر التي تكشف لنا عقلية سكان وادي الرافدين ومعتقداتهم في الألف الثالثة ق.م، كما أنها من المصادر الأولى التي تحدثت بوضوح عن قصة الطوفان التي أشارت إليها التوراة فيما بعد وأكدت حدوثها.

4ـ اتسامها بالصفات الأساسية التي تميز الآداب العالمية المشهورة، سواء من ناحية الأسلوب أو الموضوع أو المحتوى، أو الأخيلة والصور الفنية المدهشة.

وقد عثر على هذه الملحمة في خزانة الملك الآشوري آشور بانيبال (668 ـ 626) ق.م موزعة على اثني عشر رقماً طينياً في كل منها ستة أعمدة، مما يجعل النص الكامل في 72 عموداً. وعلى الرغم من أن أجزاء من الملحمة ما زالت مفقودة حتى اليوم، إلا أن فكرة العمل الأساسية تبدو واضحة وجلية بشكل عام. وقد صيغ نص الملحمة صياغة شعرية تتألف من وحدات، وكل وحدة منها تتكون من بيتين من الشعر يتألف كل بيت من مصرعين (صدر وعجز) وهو موزون لكنه غير مقفى، فهو على غرار الشعر العبراني واليوناني والروماني القديم.

والملحمة بحسب النص المعتمد عليه والمنسوب إلى (سين ـ لقي ـ أونيني) تحمل عنواناً مقتبساً من أول عبارة فيها: (هو الذي رأى كل شيء)، والضمير (هو) يشير إلى جلجامش الذي يعني اسمه فيما يعنيه: (المحارب الذي في المقدمة) أو (الرجل الذي سيكون نواة لشجرة جديدة)، وعبارة (رأى كل شيء) كناية عن عظمة جلجامش الذي اطلع على أسرار الخلود، وعبر مياه الموت، وجاء بأخبار الطوفان وما قبله، وعرف الخطايا المكتومة بما في ذلك عالم الأموات.

وقد ورد اسم جلجامش في إثبات الملوك السومريين كأحد ملوك (أوروك) من سلالة (الوكاء) الأولى، وهي السلالة الثانية التي حكمت بعد الطوفان، ويأتي ترتيب حكمه خامس ملك، وقد ترك هذا الملك كثيراً من الأعمال التي تخلده، منها سور مدينة أوروك (الوركاء)، وقد أصبحت أعماله ومغامراته مادة لملاحم وقصص سومرية وبابلية أضفى عليها الخيال الشعبي كثيراً من المبالغات حتى أضحى جلجامش شخصية أسطورية ثلثاه إله وثلثه الآخر بشر.

بقي أن نقول إن الفضل في اكتشاف رقُم ملحمة جلجامش يعود إلى المنقبين الأثريين الهواة (أوستن هنري ليرد) و(هرمز رسام) و(جورج سمث) بين عامي (1839 ـ 1853) الذين وجدوا نص الملحمة البابلي في خزانة الملك الآشوري في نينوى، ومن المرجح أن الملحمة دونت عدة مرات يعود أولها إلى بداية الألف الثالث ق.م، وقد وجدت لها ترجمات قديمة مختلفة إلى كل من اللغة الحثية واللغة الحورية، مما يدل على سعة انتشارها وأهميتها لدى شعوب الشرق القديم.

تدور أحداث الملحمة حول شخصية بطل الملحمة الرئيسي جلجامش ملك أوروك، ابن الآلهة (ننسون) الذي ثلثاه إله وثلثه الباقي بشر، وقد أوتي الكثير من القوة والجمال مما دفعه للبطش والطغيان، لذلك تشكو الرعية أمرها إلى الآلهة، فتستجيب الآلهة لشكواها، ويأمر الإله (أونو) الآلهة (أرورو) بأن تخلق غريماً لجلجامش يضارعه في القوة والعزم، ليكونا في صراع دائم وتنال أوروك السلام والراحة، وهكذا يكون، فتخلق الآلهة (أنكيدو) من حفنة طين تلقيها في البراري، وينشأ أنكيدو مع الوحوش فيأكل ويشرب معها كأنه واحد منها، إلى أن يصادفه ذات يوم صياد شاب فيذعر منه لأنه يفلت الصيد من أفخاخه، فيشتكي أمره لأبيه الذي ينصحه باستشارة جلجامش، فيأمره جلجامش بأن يأخذ البغي (شمخة) معه لتروض أنكيدو الرجل الوحش، ويتم ترويض أنكيدو على يد شمخة، فتفر منه وحوش البراري بعد أن فقد براءته، ثم تصحبه شمخة معها إلى أوروك، وهناك أمام معبد (إشخار) يلتقي جلجامش بأنكيدو ويتصارعان، ثم يصبحان صديقين حميمين تأكيداً لنبوءة أمه (ننسون) عندما فسرت حلم جلجامش ورؤيته للشهاب والفأس، بأنه سيعثر على صاحب يعينه وقت الضيق.

 بعد ذلك يقرر جلجامش أن يصحب أنكيدو في مغامرة إلى غابة الأرز التي يحرسها المارد (خمبابا). في البدء يثنيه شيوخ أوروك عن عزمه ولكنهم يوافقون في النهاية، ويتمكن جلجامش وصديقه أنكيدو من قتل خمبابا والعودة إلى أوروك مظفرين، حينذاك تقرر عشتار أن تتزوج من جلجامش، لكن جلجامش يرفض، ويتمكن بمساعدة أنكيدو من قتل ثور السماء وسيلة عشتار للقضاء على جلجامش انتقاماً منه، حتى أنكيدو يرمي عشتار بفخذ الثور، مما يثير حنقها ونقمتها، وهنا تقرر الآله أن تعاقب جلجامش لخروجه عن حدوده مع الآلهة، فتعطي الأمر بموت مساعده أنكيدو، وبموت أنكيدو تصل الملحمة إلى ذروتها حيث ينفجر الصراع العنيف في نفس جلجامش بعد أن يقف وجهاً لوجه حائراً أمام السؤال المر الأبدي: لماذا الموت؟ وهنا يقرر القيام برحلته إلى جده الخالد (أوتاتفشتم)، عسى يعثر على سر الخلود، فيعبر الفيافي والقفار، ويلتقي في طريقه بربّة الحان التي تنصحه بالالتفات إلى مسرات الحياة والانغماس فيها بدلاً من المخاطرة، لكنه يتابع الرحلة إلى أن يلتقي بملاح أوتاتفشتم المسمى (أورشنابي) ومعه يعبر جلجامش مياه الموت إلى أن يصل إلى أوتانفشتم، وهناك يواجه الحقيقة المرة التي يتفوه بها جده أوتاتفشتم بأنه لا مفر من الموت، ومع ذلك يمنح جلجامش العشبة التي تجدد الحياة وتعيد العجوز إلى صباه، فيقرر جلجامش أن يعود بها إلى أهل أوروك، لكنه يفقدها في الطريق إذ تخطفها الأفعى، وهكذا يعود إلى أوروك خالي الوفاض، وتنتهي الملحمة بالأبيات ذاتها التي بدأت بها والتي تذّكر بأسوار أوروك التي بناها جلجامش ووضع أسسها الحكماء السبعة.

العدد 1105 - 01/5/2024