ريف دمشق.. رئة بلا هواء!

يقال إن أحد أسباب نقل الخلافة الإسلامية من المدينة إلى دمشق في زمن معاوية، هو غوطتها الجميلة الغناء وماؤها.. اليوم لم تعد كذلك!

ريف دمشق الذي يضم الغوطتين، والذي كان رئة دمشق وماءها، هو الآن على أبواب كارثة بيئية اجتماعية اقتصادية لا تحمد عقباها.

خط الصرف الصحي

تصدر دمشق شريانها الملوث إلى محطة عدرا للمعالجة، ثم هناك الراجع الذي يغذي كل الغوطة الشرقية، فيستفيد من ذلك معظم الحقول والبساتين.

المحطات الجزيئية التي تتموضع على طريق الراجع، سُرقت ونهبت عن بكرة أبيها، وبذلك لم تعد هذه المحطات تستطيع رفع مياه الراجع، ولم يعد هناك ورش الصيانة، بسبب خروج معظم المحطات خارج السيطرة، ما عدا المحطة الرئيسية (الوصول) النهاية.. مما أدى إلى خفض منسوب المياه الجوفية إلى أكثر من 10 م. ط، وبالتالي هناك يباس في المحاصيل الزراعية، يضاف إليها عدم استطاعة الكثير من الفلاحين الوصول إلى أراضيهم في أغلب الأحيان، بسبب المعارك والقصف.

حواجز.. حواجز.. لا توجد مرجعيات

ببساطة الفلاح المغموس دمه بتراب الأرض، عبّر الفلاح السبعيني أبو خليل عن هذا الواقع المزري بقوله: (من لا يشعر بوجعك فليس ببني آدم.. وين الدولة)؟ قسم كبير من أهالي دوما، والشيفونية، والريحان، ومسرابا، ومناطق كثيرة عادوا إلى بيوتهم، بعد أن عانوا الأمرّين لعدم توفر المال اللازم للإيجار في المناطق الأكثر أمناً، أو خوفاً على بيوتهم من السرقة أو الاستيلاء عليها. وهم يعانون أيضاً مرارة الامتهان للكرامة، أثناء المرور على الحواجز المختلفة، سواء للجيش النظامي أو حواجز المسلحين. ترى في وجوه الناس إحساساً يفطر القلب، ممزوجاً بالمرارة لما آلت إليه الأوضاع.. فالمواطن يشعر أنه لم يعد يوجد من يحميه، وهذا من أصعب الأشياء.

من جهة ثانية يتعرض المواطن إلى غلاء فاحش وابتزاز فاضح، في حياته اليومية وتنقلاته من أماكن العمل وإليها..  كما يتعرض للموت في أي لحظة، حتى أصبح كل فرد يوصي عندما يخرج من بيته.

هل من المعقول وجود ممر واحد للدخول إلى غوطة دمشق الشرقية هو ممر المليحة، حيث لا يسمح للمواطن بتمرير ربطة خبز واحدة، في ظل تردي الأوضاع الحياتية والمعاشية داخل مناطق سكن المدنيين؟

يتبين من الجدول أن معظم المنتوجات الزراعية الموجودة في الريف هي أقل بنصف القيمة تقريباً في دمشق، والعكس صحيح، والسبب هو:

– صعوبة النقل بين المدينة والريف، وما يترتب من مخاطر.

– الحواجز الكثيرة والرشوة والابتزاز.

– منع المسلحين من خروج المواد (مادة اللحمة).

فقد أغلق مسلخ دوما، وخرجت مظاهرات في المدينة تطالب المسلحين بالسماح لهم وللمنتوجات الزراعية بالخروج، إذ تعرض الفلاحون وناقلو مادة الحليب واللحوم لخسائر فادحة.

ماء.. كهرباء.. دواء يا حكومة!

في المناطق الخارجة عن السيطرة، لا يوجد كهرباء منذ أكثر من ثمانية أشهر، وفي ظل الظروف الراهنة كيف يستطيع المواطن تأمين احتياجاته.. فلا ماء ولا كهرباء ولا دواء ولا هاتف! فيضطر المواطن إلى تأمين المياه عبر محركات الديزل أو المولدات.

تؤمن المجموعات المسلحة الكهرباء عبر مولدات كبيرة لبعض مناطق الريف بالأسعار التالية: 3 ساعات يومياً تدفع 1500 ل.س مقدماً كل صباح سبت، وللعلم لا تستطيع تشغيل كل شيء في المنزل، فقط إنارة مع براد وتلفزيون.

خط غاطسة 6 آمبير، 3 ساعات يومياً، تدفع 2700 ل. س أسبوعياً.

جميع المولدات تعمل بالديزل، وهذه الأسعار عالية جداً ولا يستطيع المواطن تحملها!

وللتذكير ألغت مؤسسة الاتصالات الرسوم من 1/11/2012 على جميع مشتركيها في المناطق غير المؤمن لها الاتصالات، بينما مؤسسة المياه والكهرباء مازالت تقتطع رسومها دون أية خدمة.

بطالة وسرقة ورعب وخوف!

معظم العاملين في الريف فقدوا أعمالهم، خاصة في القطاع الخاص.. معظم المعامل مغلقة، إن لم نقل جميعها.. فالكهرباء مقطوعة، والتنقل مرير وصعب وخطير.. الكثيرون باعوا مصاغهم وأشياءهم الثمينة.. كل ذلك أدى إلى فقر مدقع، مما أدى إلى انتشار السرقة والنهب، إضافة إلى غلاء المعيشة المرعب. ونستطيع القول بأن معظم معامل القطاع الخاص سرقت ونهبت وأصحابها تركوها وهاجروا إلى خارج القطر.. معظم الفعاليات الاقتصادية والأطباء والمهندسين والمقتدرين تركوا مدنهم وهاجروا، بقي بعض الفلاحين الذين يستطيعون الوصول إلى أراضيهم وزراعة بعض المحاصيل لسد الرمق!

رجعت حليمة لعادتها القديمة

يمكن القول بأن الكثير من المهن القديمة قد عادت وازدهرت.. فمثلاً التنور رجع إلى عهده الذهبي، بعد أن هجره أصحابه.. وعاد الفلاحون إلى طحن القمح بالكور الحجري القديم.. أما بيع البنزين والمازوت فهو بالقنينة! ولا يخفى على الجميع بأن الأشجار والأخشاب تعرضت للقطع واستخدمت على نطاق واسع للتدفئة، ورجعت مدفأة الحطب إلى عزها القديم.. ويتفاخر البعض بامتلاك هذه المدفأة الرائعة.. أما الخبز اليابس فهو زينة الموائد بعد البلّ، وصدق من قال: (مأكول ومذموم)!

كلمة أخيرة

المواطن سحق سحقاً، فالألم فطر قلبه، عندما يجد جنى عمره وكدّ وتعب أجيال يُدَك في ثانية.. عندما يرى القتل والعنف هو الوسيلة الوحيدة.. عندما يجد نفسه وحيداً ضعيفاً بمواجهة عاتيات الزمن، يترحم على الماضي وهو يرى أطراف القتال توجه السهام إليه.. وهو الذي لا حول له ولا قوة.. المواطن يريد وقف العنف، يريد الأمان له ولعائلته.. كيف لمواطن سوري يقتل ويبقى في العراء أكثر من عشرة أيام ولا يجد من يؤويه؟

استنتاجه الوحيد هو الحل السياسي وليس الاحتكام إلى السلاح، والعودة إلى حضن الدولة، وهي الراعية لكل مواطن.. إلى دولة مدنية ديمقراطية لكل مواطنيها.

العدد 1104 - 24/4/2024