المقومات الجيوسياسية لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش»

تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) حركة إسلامية فاشية عنصرية متطرفة تتبنى العمل المسلح والإرهاب في تنفيذ سياستها، يتزعمها حالياً أبو بكر البغدادي، وهي تسعى إلى تأسيس (دولة الخلافة الإسلامية) وتطبيق الشريعة في العراق والشام، وهي أبرز وأقوى التنظيمات الإسلامية التكفيرية الموجودة على الساحة السورية تطرفاً، وأصبح لها تأثير كبير على تحركات السياسة الدولية.

يعتبر تنظيم (الدولة الإسلامية في العراق والشام) من أكثر التنظيمات امتلاكاً للقوة البشرية والإمكانات العسكرية واللوجستية، وبدأ يتسع جغرافياً داخل سورية مع اشتداد الأزمة السورية الوطنية التي اندلعت عام 2011. بداية في المناطق السورية المحاذية لمحافظة الأنبار، خاصة في مدينتي البوكمال والشدادة. لاحقاً أنتظم تحت لوائه عدد من الألوية والكتائب الإسلامية المنتشرة في شمال وشمال غرب سورية، والتي لم تقاتله بسبب ماكان يقدمه من رواتب وامتيازات. من المبكر توقّع هزيمة التنظيم واندثاره في المدى المنظور، لتبنيه استراتيجيات جيوسياسية متعددة هي:

أ- فعالية منظري الجهادية: أدى اصطفّاف المسؤولين عن حركية المستوى الأول في قوة التنظيم، أي منظري الجهادية إلى جانب البغدادي غداة إعلانه (الدولة الإسلامية في العراق والشام)، وخشية التنظيم الأم (جبهة النصرة) من هذا التنظيم الوليد، إلى تحاشي كثير من التنظيمات الإسلامية الصدام معه، مما جعلها تنضوي تحت جناحه أو تستسلم له.

ب- الصورة الخرافية: يسبق دائماً قرقعة السلاح عند تنظيم الدولة (داعش) صورة إعلامية استباقية مرعبة لأفعاله، مايجعل الخصم في حالة من الخوف. هذا ماحدث للوحدات الأمنية والعسكرية النظامية للجيش العراقي في الموصل، ذلك أن تعداد الجيش العراقي في مدينة الموصل عند سقوطها من قبل تنظيم (داعش) كان يتجاوز العشرين ألفاً من الجنود، وقد هزموا من قبل عدة مئات أو عدة آلاف من عناصر التنظيم، علماً أنه كان قد تم تجهيز قوات الأمن العراقية بكافة الوسائل لمكافحة الإرهاب. إذ يشير مايكل فيس Michael Weiss) ) في مجلة POLITICO Magazine) ) إلى (أن الولايات المتحدة قد أنفقت مايعادل 14 مليار دولار على تدريب وتسليح قوات الأمن العراقية، وهي تلاشت حتى قبل سقوط الموصل)؟

ج- الانتشار الجغرافي يمتلك تنظيم (داعش) ميزة ميدانية هامة وهي (الجغرافية الواسعة). إذ أنّ عناصر هذا التنظيم ينتشرون على رقعة جغرافيّة هائلة من سورية، تمتدّ من البوكمال شرقًا إلى ريف اللاذقيّة المحاذي للبحر المتوسط غربًا؛ مايعني قدرته على إعادة تشكيل وتنظيم قواه المنسحبة من مناطق مهادنة نحو مناطق المواجهات. ويعتقد تشارلز ليستر من مركز الدراسات حول الإرهاب وحركات التمرد (آي إتش إس جاينز) البريطاني، أن (الدولة الإسلامية في العراق والشام) تعمل لفرض نفسها في مناطق شمال وشمال شرق سورية على غرار شرقها (ليتاح لها الوصول بسهولة إلى مجندين جدد والى الموارد والتمويل والإمدادات). وأيضاً من أجل (الحؤول دون استخدام المجموعات المسلحة الأخرى لطرق الإمداد هذه عبر الحدود بشكل آمن)، وذلك بهدف إنشاء دولة تمتد من شمال سورية إلى العراق. وهو ماجعل ريف حلب خاصةً، مسرحاً لأكثر من مواجهة مسلحة بين التنظيم والتنظيمات الإسلامية الأخرى من جهة، وبينه وبين الجيش الحر والجيش السوري النظامي من جهة أخرى.

لكن تلقّى تنظيم (داعش) هزيمة بفقدانه أجزاء واسعة من ريف حلب لصالح لواء (عاصفة الشمال)، وأيضاً وبشكل خاص (جيش المجاهدين)، الذي تشكّل في 2 كانون الثاني (يناير) 2014؛ أي قبل يومٍ واحد من بدء المواجهة مع (داعش). وعلى الرغم من التطابق الكبير في أيديولوجيا التنظيمات الإسلامية المتصارعة، وعلى الرغم من كونها تعمل في الحيّز الجغرافي نفسه، تَواجهَ الطرفان. وتمكّن مقاتلو جيش المجاهدين ولواء عاصفة الشمال من طرد عناصر تنظيم الدولة (داعش) من معظم قرى ريف حلب الغربي، والأحياء الغربية في مدينة حلب. إذ أنه وخلال شهر أيلول (سبتمبر) 2013 كانت قد بلغت المعارك ذروتها بين تنظيم (داعش) وخصومه في مدينة اعزاز بريف حلب، والتي خسر فيها مناطق واسعة من شمال حلب. ومايلفت النظر أن هذه التطورات الميدانية جاءت في أعقاب الاتفاق الروسي الأمريكي في جنيف2 والإعلان عن إنشاء (الجبهة الإسلامية) في سورية، وهي مزيج من مجموعة من التنظيمات الإسلامية ضعيفة النفوذ، وألوية تابعة للجيش السوري الحر، ليُعلن بإنشائها عن مرحلة جديدة لانتشار المجموعات المسلحة في سورية، سيكون فيها تنظيم (داعش) هو الأقوى. وفي مقابل هزيمته في ريف حلب استطاع هذا التنظيم بميزة (الجغرافية الواسعة)، أن ينقل قسماً من قواته من شمال سورية ليجتاح مدينة الموصل، مركز محافظة نينوى، بعد أن استولى على مدينة صلاح الدين وتكريت في 10 أيار 2014. ثم استطاع لاحقاً بعد سيطرته على محافظة نينوى، من نقل عناصره ومعظمها من العراق، واستخدام ماغنمه من الجيش العراقي، في احتلال قيادة الفرقة 17 واللواء 93 التابعين للجيش العربي السوري في محافظة الرقة.

د- المعابر: تسيطر داعش على معظم منافذ ومعابر التمويل مابين سورية وتركيا، ومابين سورية والعراق، وجزء محدود مع لبنان. ويُبنى على هذه السيطرة أن هذا التنظيم يتحكم بشكل كبير في إمدادات الفصائل والتنظيمات الإسلامية المتشددة الأخرى، إضافة إلى كتائب الجيش الحر. لذلك وإن هُزم هذا التنظيم في شمال سورية في وقت سابق، فإنه لابد أن يُفكر لاحقاً ليدخلها مرة أخرى ويسيطر على آخر المعابر المحتملة إلى محافظة حلب.

لم يتورع هذا التنظيم خلال إحكام قبضته على المجتمعات المحلية في سورية والعراق من ارتكاب الجرائم والإعدامات الجماعية، وقتل نشطاء الحراك الشعبي والإعلاميين ورجال الدين المعتدلين، وتهجير الأقليات وتدمير الكنائس والأضرحة الإسلامية، وإغلاق المدارس الرسمية وتعطيل جميع مظاهر الحياة الثقافية. وقد عرضت معظم القنوات الإخبارية صور لإعدامات جماعية قام بها هذا التنظيم بحق الطائفة الإيزيدية في منطقة سنجار، وبحق مجندين عراقيين قدر عددهم بنحو خمسمئة شخص، من بين ألف وخمسمئة تم حجزهم في قاعدة سبايكر الواقعة في محافظة صلاح الدين، وغيرها بحق السوريين مدنيين وعسكريين.

لكن رغم كل هذه الضوضاء الإعلامية وقرقعة السلاح التي تحيط بظاهرة تنظيم الدولة الإسلامية للعراق والشام، يبقى هذا التنظيم في الجوهر، في غياب المؤسسات الدينية والاجتماعية والسياسية المعاصرة التي لم تُناقش، ولو بأبسط الأشكال، الجذور الدينية والاجتماعية والثقافية لظهور هذا التنظيم، مُنتجاً ثقافياً تم استثماره والعمل عليه كفعل استشراقي. وإذا كان من السذاجة الاعتقاد بأن نشأة هذا التنظيم تعود إلى هذا السبب أو ذاك، فإنه من الأجدى القول إن الأزمة السورية في شروطها الداخلية ساهمت في ظهور تنظيم (داعش) إضافة إلى عوامل بوليتيكية خارجية ترتبط بالطاقة الجيوسياسية لسورية، وطبيعة الصراع مع إسرائيل.

العدد 1104 - 24/4/2024