عبد السلام عيون السود.. الشاعر المتعب (1922-1954)

 عبد السلام عيون السود، شاعر رومانسي، سوداوي المزاج، مرهف الإحساس، قلق الأعصاب، مفعم بالحزن والتشاؤم.ولد عام 1922 في مدينة حمص، في أسرة فقيرة ومحافظة ومتدينة.. تلقى دراسته الابتدائية في حمص، والإعدادية في الكلية الشرعية بحلب، ولم يكمل دراسته الثانوية بسبب حاجته الماسة إلى العمل. تطوع جندياً في الجيش وعمل موظفاً بسيطاً في الإنتاج الزراعي، ثم في مديرية المالية في حمص براتب ضئيل لم يكن يكفي إعالة زوجته وأولاده الثلاثة.

أصيب بمرض التوسع الإكليلي في القلب، ولم يكتشف الأطباء مرضه إلا في مراحله الأخيرة، مما جعل علاجه وشفاءه أمراً متعذراً، وقد أدى به هذا المرض الذي لازمه ثلاث سنوات قبل وفاته إلى الشعور باليأس والإحباط، فأقدم على حرق ديوانه المخطوط، بعد أن تغيرت نظرته إلى الشعر الذي أنفق في محرابه زهرة شبابه، وقد قال لصديقه عبد القادر الجنيدي، وهو على فراش المرض: (قل لي بربك ما جدوى هذا الهراء الذي ندعوه بالشعر؟! الشعر الذي أنفقت في محرابه زهرة شبابي، إذا أنا التفتّ حولي فلم أجد إلا أطفالاً زغباً لا يجدون المأوى الصحي الذي يقيهم أنواء الطبيعة، ولا الغذاء الكامل الذي يدفع عنهم المرض).

لم يعش عبد السلام طويلاً بعد تصريحه بهذا الكلام، فقد أسلم الروح في الخامس عشر من شهر كانون الثاني عام 1954، ومات مبكياً على شبابه الغض وعمره القصير الذي لم يتجاوز الثانية والثلاثين.

آثاره الأدبية

كان عبد السلام قد عهد إلى أصدقائه وصفي قرنفلي (1911-1972) ونصوح فاخوري (1924-2002) وعبد القادر الجنيدي، بجمع آثاره الشعرية والنثرية، فقاموا بعد وفاته بالمهمة التي أوكلها إليهم، وسلموا هذه الآثار إلى وزارة الثقافة التي قامت بإصدارها عام 1968 تحت عنوان (مع الريح)، وضمت عشرين قصيدة، وأربع مقالات نقدية هي: صحو بليد، في انتظار عودتك، الموهبة الأصيلة أقوى من الموت، حصدنا منجل واحد.

شعره

كان عبد السلام عيون السود مقلاً في النظم، لانشغاله بهموم الحياة وشجونها وأعباء المعيشة، ثم مرض القلب الذي داهمه قبل ثلاث سنوات من وفاته، فتوقف عن الكتابة، وقد نظم أكثر قصائده العشرين بين عامي 1942 و،1952 وعـــــــــكس فيها أهــــــــواءه وحبـــــــــــه ومتابعه النفسية والجسدية، وجعلها مرآة لمعاناته الطويلة مع القلق والضياع والاضطراب والحزن والفقر والشعر والألم وعدم الاستقرار:

عامان كالدهر مرا

ولم أجد مستقرا

على جبين الليالي

سفحت روحي شعرا

فأين.. يا أين ألقي

عصاتي؟ الريح أدرى

لقد عاش حياته القصيرة محروماً ومتعباً، أتعبه حب (الشقراء) المعذب المتعالي المئناف وصلفها وشموخها، وهو الشاعر الحساس الذي يذوب رقة وحنيناً وشوقاً إليها:

شقراء. يا شقراء.. يا لمحة

شاردة من حلم أخضر

لونك رف الورد لم ينسرح

ولم يزل في غصنه الأنضر

وعطرك الهائم مرت على

أجوائه كف الربيع الطري

شقراء ما أنعمها عودة

لِشَدْونا وحبنا الأطهر

ما ضرّ لوعدنا وعاد الهوى

يهمس في مخبئنا المقمر

عفوك يا شقراء عفو الهوى

عفو انفلات الهاجس المضمر

أسرفت أسرفت ولم أرتدع

سألتك اللذات أن تغفري

على ضفاف الكأس قد أجهشت

روحي فغام لها سُمّري

أتعبه المرض الوبيل الذي رافقه حتى آخر حياته، وانكسار الأحلام الوردية والبحث الدائب عن الرغيف:

صوت الحياة بمسمعيّ يهزّني هزاً عنيفا

أأُجيبه يا ليل؟ أم أمضي فألتمس الرغيفا؟

كان، كما يقول عنه صديقه الحميم عبد الباسط الصوفي (1931-1960): (نفساً مفعمة بالحساسية الشديدة، سريع التأثر، سريع الانفعال، سريع الرضا، امتاز بتلك الروح الجميلة المرهفة التي تشيع على الأشياء من حولها حركة وحياة.. وكان يضفي على حلقاتنا التي كنا نجلس فيها للسمر طابعاً من الحس المترف الرفيع، رشيق النكتة، رائعها، لا يحيد عن اللباقة، تكفي كلمة نابية بعض الشيء توجه إليه حتى يرتعش ويصمت صمتاً طويلاً، وكان شاعراً يمثل الصفاء في كل شيء، في الروح واللفظة والإيماءة.

ثلاث سمات طبعت حياته هي: الحساسية المفرطة، وسرعة الانفعال، والانطواء على النفس، ولا شك أن البيئة المحافظة التي نشأ فيها هي التي أثرت في تكوينه النفسي، وعلى الرغم من محاولته الإفلات منها والتمرد عليها والانفتاح على الآخرين، ونبذ القيم الأخلاقية التقليدية، والاستمتاع بالحياة التي كان متعطشاً للانغماس في مباهجها ولذاذاتها، فإن هذه المحاولة لم تثمر، وانعكست على حياته حزناً عميقاً، وتشاؤماً مفرطاً لازماه طوال حياته:

أقبلي يا غيوم بالأسود الحالك

يطوي بجانحيه نهاري

أقبلي.. أقبلي.. أحس انهياراً

في السحيق العميق من أغواري

باكرتني الهموم فانتثر الحلم..

وأغفى الربيع في آذاري

وشجا خاطري اكتئاب العشيات

وتيهي في ليلها والخداري

لقد وجد في نظم الشعر عزاء له، وتنفيساً عن همومه وآلامه، وجراح قلبه المريض ويأسه وتعبه وشقائه، وكثيراً ما كان يردد في قصائده عبارات الإعياء والتعب والانطفاء والتيه والضياع والانحدار والموت واللين والصقيع والانكسار:

أنا يا أخت متعب وسلي الريح..

سليها تجبك عن إعيائي

كيف أحيا يا أخت.. أدركني الليل

ودبّ الصقيع في أعضائي؟

أنا يا أخت متعب.. متعب

مثلك في حيرة وطول التواء

نلتقي في الضياع.. في التيه..

في الآهات تترى وفي أكف الهواء

وانكسار الأحلام في اللفتة الأولى..

ونفخ الحياة للأشلاء

ومن يدري؟ فربما كانت هذه المعاناة الشديدة هي السبب الأول والجوهري في إقدامه على تمزيق قصائده وحرقها، فلم يسلم منها إلا القليل القليل، وهو في حالة من اليأس والذهول والضياع واللامبالاة. يقول في رسالة بعث بها إلى أحد أصدقائه عام 1950: (ليس للشعر مكان الآن في نفسي.. إنه يسرق الثقة، والمريض اليائس لا يسرق، وإنما يسأل من يأمل.. ربما مزقت ما كتبته حتى الآن!).

يدور معظم شعر عبد السلام عيون السود، إن لم أقل كله، حول همومه الذاتية التي تحددت في الضياع والتعب والعشق والرغبة في الموت:

ألا واحةٌ في ثنايا الجحيم

تلوح؟ ألا جدول في اليباب؟

كأن الفضاء ضريح يضيق

كأن الهواء عواء ذئاب

تراني أموت! تراني أهذي!

تراني أعدو وراء السراب؟!

ونراه يعود في قصيدة (لقاء) ليكرر فكرة الرغبة في الموت المتسلطة عليه قائلاً:

أنا يا صديقة مرهق حتى العياء.. فكيف أنت؟

وحدي أمام الموت.. لا أحد سوى قلقي وصمتي

لقد تلاحم شعره مع حياته، كما تلاحم شعر وصفي قرنفلي وعبد الباسط الصوفي، وكان هؤلاء الثلاثة أبرز فرسان الرومانسية في الشعر العربي السوري المعاصر، جمعتهم أواصر الود والصداقة والنظرة المنفتحة على الحياة والهموم الذاتية الواحدة والعشق والحيرة والتشاؤم والرومانسية ومجالس الشراب، وتبدو رومانسية عبد السلام في أكثر قصائده، كقوله في قصيدة (شرود):

أين أنا؟ يا ليل.. من يعلمُ

لقد كواني جنحك المظلمُ

ضلّت بي الأرض وغام الفضا

وغارت الأضواء والأنجم

أين أنا؟ يا ليل.. أين التي

مرتْ مرور الطيف في غفوتي؟

غيّبها الأفق..وما من صدى

إلا انحدار الدمع من مقلتي

أين أنا؟ يا ليل.. قد طوفت

بحيرتي أشباحك الهائمه

وطال مسراي.. فأين الهدى؟

أين صباح الليلة القاتمة؟

أين أنا؟ يا ليل.. حتى متى

أرقب يا ليل انفلات السحر

أتاركي أنت بلا مأمل

أصحو على إيمائه المنتظر

وقوله في قصيدة (ذهاب) مخاطباً حبيبته الشقراء التي تزوجت وتركته يشرق بأحزانه ويكفكف دموعه:

بعيداً وخلّفْتِني في الدروب

بقايا تموت مع المغرب

إلى أين يا أخت ضاق المكان

وأخنى الزمان على منكبي

حنانك حسبي مللت السرى

وحيداً أفتش عن مهرب

طويت شراعي شراعي العزيز

وعدت أكفكف عن مطلبي

كتمتك في حرمة الذكريات

وفي جوها الشاحب المتعب

***

إذا كان وصفي قرنفلي وعبد الباسط الصوفي قد تطرقا في بعض قصائدهما إلى القضايا الوطنية، ووقفا إلى جانب الشعب المعذب والمكافح في صراعه ضد قوى التسلط والقهر والطغيان، فإن عبد السلام عيون السود بقي في منأى عن هذا الاتجاه، لأن همومه الذاتية ومأساته الخاصة وعلة القلب شغلته عن كل شيء، فكان أقل منهما تجاوباً مع الحياة العامة والأحداث السياسية التي عصفت بالبلاد، وليس في ديوانه إلا قصيدة واحدة هي (عرب نحن) نشرها عام ،1947 وافتخر فيها بالأمجاد القومية قائلاً:

عرب نحن.. أو أعاريب..

لا فرق.. سنحيا في زحمة الأحياء

ونرود الدنى كأس حداة،

بل هداة، بل دفقة من سناء

نفتح الأرض بالسلام، وبالحب سنحيا،

وبالشذى المعطاء

نحن كنا لها، وما كان غير،

في ظلام القرون، دنيا ضياء

فسرينا مثل الغمائم في السكب..

وسُقيا البراعم البيضاء

قصة العرب، أي سطر غنيٍّ،

 همرته حناجر الصحراء

قصة يحضن الخلود حواشيها..

ويغفو مغرورقاً في اكتفاء

***

قال فيه الدكتور عمر الدقاق: (يغلب على أدبه التشاؤم والسوداوية، وقد عرف بتنقيح أشعاره، وقصائده طافحة بأرق المشاعر وأعمقها).

وقال الأستاذ جلال فاروق الشريف: (تتجسد في العشق جميع آلام عبد السلام عيون السود وهمومه، وينكشف ضياعه وتعبه. عشق الأرستقراطية الشقراء التي أحبها حتى النفس الأخير).

المصادر

1- جلال فاروق الشريف- الرومانتيكية في الشعر العربي المعاصر في سورية- اتحاد الكتاب العرب- دمشق 1980.

2- الدكتور عمر الدقاق- فنون الأدب المعاصر في سورية- دار الشرق العربي- بيروت 1971.

3- عبد القادر عياش- معجم المؤلفين السوريين – دار الفكر – دمشق 1985.

4- محمد غازي التدمري- من أعلام حمص (الجزء الأول) دار المعارف – حمص 1999.

5- عبد الباسط الصوفي- آثار عبد الباسط الصوفي الشعرية والنثرية – وزارة الثقافة – دمشق (بلا تاريخ)

العدد 1104 - 24/4/2024