بودلير… بـين الحداثة والرومانتيكية

بهيئة الشاعر الملعون وكلمة (سحقاً) أنهى بودلير حياته بعد حرب طويلة مع مجتمع رافض كل الرفض لقيم الحداثة والحرية والتطور. وإذا كانت الثورة الفرنسية قد تخلصت من منظومة القيم الإنسانية لمجتمع إقطاعي أبوي أصبح خارج نطاق الزمن، فإن قصائد بودلير شكلت ثورة على الأنماط الشعرية التقليدية، ونقطة انعطاف في تاريخ الشعر الفرنسي باتجاه الحداثة والمعاصرة لدرجة أن فيكتور هيغو في أحدى رسائله لبودلير كتب يقول: (إنك تخلق رعشة جديدة في الشعر الفرنسي).

في الحقيقة لم يكن بودلير يدرك أنه من خلال نتاجه الأدبي سيضع الركيزة الأساسية التي ستنهض عليها التيارات الشعرية الحديثة في أوربا، ولكنه أدرك بحسه المرهف أنه ولد فتياً في قرن بالغ الشيخوخة، وأن (شعراء مشهورين تقاسموا منذ أمد بعيد أكثر الأقاليم ازدهاراً في المجال الشعري)، وقد راقب بودلير ذلك الازدهار لقامات كبيرة أمثال هوغو، لامارتين، غوتييه، دي موسيه، وغيرهم، بعين يقظة، متيقناً أنه، ليقف إلى جانب تلك القامات لابد له من أن يجد صوته الخاص بعيداً عن التقليد والمحاكاة الصماء (فكل شيء قد قيل)، وشعراء الرومانتيكية في تعبيرهم عن روح العصر قبيل الثورة وبعدها كانوا في زمن بودلير قد وصلوا بالحركة الرومانتيكية إلى منتهاها، فالتعبير عن اختلاجات الروح والقلب والبحث عن التسامي وكل ما هو مثالي، والحنين الدائم إلى الماضي وزمن الثورة وغيرها من المشاعر والصور أصبحت بعيدة عن الواقع في زمن تمكنت فيه القيم البرجوازية من بسط نفوذها، وأصبحت النقود والشهرة أهم من الشرف، وقد عبر بودلير عن ازدراءه لتلك المعايير والتصنيفات التي بدأت تأخذ تدريجياً مكانها في المجتمع حيث يقول:

(فأغبياء البرجوازية الذين يتشدقون دائماً بكلمات من قبيل (لاأخلاقي) (لاأخلاقية)، (الأخلاق في الفن) وغيرها من الحماقات، يذكرونني بـ(لويز فيلديو)، وهي عاهرة بخمسة فرنكات، رافقتني ذات يوم في زيارة إلى اللوفر، وكانت تلك أول مرة تزور فيها هذا المتحف، فاحمرَّ وجهها وراحت تغطيه بكفها وتجذبني من كُم سترتي، متسائلةً أمام اللوحات الخالدة: كيف أمكن عرض هذه العَوْرات على الناس؟).

في هذا المناخ العام الذي أحاط بهذا الشاعر الخبيث – الغريب الأطوار المحارَب من مجتمعه أبصر ديوانه (أزهار الشر) النور، وعلى الرغم من الإهمال التام من قبل الأوساط الفنية لهذا العمل الخلاق، والهجوم اللاذع لنقاد تلك المرحلة عليه، إلا أن أحداً لم يكن ليتوقع أن قوة الشعر والإبداع ستتجاوز كل ذلك مكرسة فكرة الحداثة فعلاً حضارياً يقوم على الإيمان الراسخ بالعقل والعقلانية والحرية والتقدم الاجتماعي، والفردانية والاختلاف من أجل امتلاك الحاضر ومن المستقبل.

إن حالة التناقض الذي كان يعيشها بودلير بين أزمة الشاعر الرومنتيكي الذي يرى في نفسه نبي العصر الحديث، ومنبع الحكمة اللانهائي، ورسول الخلاص للبشر المعذبين والضالين، وحالة الانحلال الأخلاقي والقيم النفعية السائدة، جعلت من العزلة والاغتراب قدراً حتمياً للفنان المبدع، الذي لم يجد وسيلة سوى الكلمة للتعبير عن سخطه وعن (راهن يمثل نفياً لإنسانية الإنسان، وإهداراَ لطاقاته الحقيقية الإبداعية الرفيعة، وماضٍ كان تحقيقاَ لشهوات الإنسان وأحلامه في حياة مزدهرة، سعيدة ومكتملة، وذاتٍ ضائعة مهدورة، محكومة بقيم مادية فظة لا إنسانية، إلى حد الانحطاط والابتذال).

أجل، لقد كان ديوان (أزهار الشر) تجربة شاعرية (لاستنباط الجمال من الشر) الكامن في الخواء الروحي للعالم، وعدائيته تجاه البشرية وانفصاله عن روح الإنسان، ففي خضم الحركة المتواصلة والمحمومة في متاهات المدينة وتلك المشاعر الجامدة لعمليات التبادل التجاري ودخان المصانع وقذارة الأزقة ثمة عالم سحري لم يسبق اكتشافه من قبل، فهو يكتب مخاطباً مدينته باريس في دلالة واضحة إلى ذلك العالم السفلي – القاع / الحانات/ المقابر/ بيوت الدعارة- الذي تخرج منه تلك الكائنات المهشمة والذي كان مصدر إلهامه وإبداعه:

إنني استخلصت من كل شيء الجوهر،

أعطيتني طينك فصنعت منه الذهب.

لقد نهج بودلير، بعكس شعراء الرومانتيكية الكبار الذين أثروا فيه وشكلت أعمالهم مادة دسمة له، منحى مختلفاً في تناوله للمسائل الإنسانية، كان لابد له لتمييز نفسه من أن يزيلهم، أن يخرج من دائرتهم، أن ينفيهم (فلكي تكون شاعراً عظيماً – برأيه – ينبغي ألا تكون لامارتين ولا هوغو ولا موسيه) إن هذه الجرأة لفتى محدث النعمة كانت الخطوة الأولى نحو الحداثة الشعرية التي أطلقها بودلير، والتي لم تطل الأشكال الشعرية فحسب بل تجاوزتها لتصل إلى عالم المشاعر، والبعد التصويري للقصيدة، وعمق الأفكار.

منحدراً من سماوات لامارتين المثالية إلى أرض هوغو العائمة بين أسراب الملائكة، ومن أرض هوغو تجاوز الذرا العالية والأفكار السامية إلى سهول سانت بوف الشعرية الواسعة والرحبة، ليذوب تدريجياً ويتلاشى بين أكثر المخلوقات بؤسا في حالة أشبه ما تكون بتحرير الذات لتصبح الذات (الأنا) هي مركز العالم الذي يصبح انعكاساً لتلك لذات في شتى حالاتها.

لقد دفع بودلير ضريبة اكتشافه الجديد، بخروجه عن السياق العام للبنى والتراكيب والأفكار الشعرية في عصره، وإن كان يرى بشكل أو بآخر (أن الرومانتيكية بركة من السماء أو من الشيطان وقد تركت فينا جروحا لا تندمل)، ابتعد في شعره عن تلك الصور الريفية المشبعة بالمشاعر والعواطف والمنسابة بسلاسة كلوحة طبيعية معلقة على جدار، واختار المدينة بتشوهاتها وقمامتها وحاول أن يسبغ عليها بعداً موسيقياً ينسجم مع ديناميكية المكان، وهذه الخطوة الجريئة كانت أحد اهم منطلقات الحداثة في شعر بودلير التي تجلت في عمله (لوحات باريسية) التي سيكتب ت.س أليوت عنها قائلاً: (أعتقد أنني تعلمت من بودلير (…..) المظاهر الشائنة للمدينة الحديثة بالذات، وإمكانية انصهار الواقعية الأكثر قذارة فيها مع الرؤى الخارقة، إمكانية تجاوز المبتذل والخيالي..).

إلى الناس المنهمكين بالهموم المنزلية،

المطحونين بالعمل، المعذبين بالزمن،

المرهقين المحنيّين تحت ركام الأنقاض،

القيء الغامض لباريس الضخمة.

كان يرى (أن شهوة الحب الفريدة والسامية تكمن في اليقين بارتكاب الشر. ويعرف الرجل والمرأة منذ الميلاد أن في الشر تكمن كل شهوة)… إن الحب بالنسبة لبودلير هو وليد التناقضات الحادة، ففي قصيدته (إلى عذراء) التي هي مزيج بين الألم والمتعة يعلن الشاعر بوضوح:

أنا الجرح والسكين

أنا الصفعة والخد،

أنا الأعضاء وآلة التعذيب

والضحية والجلاد

إن هذا المفهوم البودليري للحب المتعارض مع الفكرة المسيحية، ومع مثالية من سبقه من شعراء الرومانتيكية، كان له وقع الصدمة على مجتمع ذلك العصر، إلا أن قوة الفكرة وعكسها الصادق للواقع أثبتت دون أي شك أن هذا التناول الحاد للمشاعر الإنسانية شكّل انعطافة خلاقة باتجاه الحداثة التي لطالما تطلع إليها بودلير.

وفي الختام، لا بد من القول إنه إذا كان بودلير قد دفع حياته ثمن حرية الكلمة والإبداع، وإذا كان قد سقط جسداً أمام جزويت النقد، فإنه بشعره أيقظ شعلة الفكر لأجيال بعده، فلولا بودلير ما كنا لنرى فرلين ولا ميلارميه ولا رامبو.

——————-

* رفعت سلام.

* شاعر الشر الجميل.

* القاهرة 2007

العدد 1105 - 01/5/2024