طه حسين.. العقلانية والتعدد

 في الـ 29 من تشرين الأول عام 1973 غادرنا الدكتور طه حسين، المفكر والمؤلف والناقد والباحث، عميد الأدب العربي، المنوّر، وأحد أهم رجالات النهضة بفكره المنفتح وتعمقه في تراث قومه، رجل العلم والثقافة والشخصية الاجتماعية البارزة.

طه حسين، قيمة رمزية للقاء ثقافتين، الثقافة الأوربية –  اليونانية الرومانية، مع الثقافة العربية، وليس مصادفة أن تكون زوجة الفقيد فرنسية، وهو الطالب الأزهري المنشأ الذي تلقى معارفه من الشيخ المرصفي نهاراً، وليلاً من المستشرق فللينو في الجامعة المصرية.. هذه الثنائية الثقافية بتفاعلها الخلاق أنجبت وشكلت شخصية طه حسين المفكر المنفتح، الذي تجسد في نفسه وفي مجتمعه صراع بين ثقافتين، ثقافة العمامة وثقافة الطربوش.

لعل من أهم القيم التي دافع عنها وكرس حياته من أجلها، الانتصار للجديد، بخوضه الصدام مع الماضي ومواجهة التخلف بمفاهيم التقدم.. فقد حارب بكل ما يملك من قوة الشخصية والمكانة الاجتماعية والعلمية أشكال التفكير الخرافي، وواجه شيوخ الأزهر حاملي ثقافة القرون الوسطى وما قبلها، وكذلك المتزمتين من رجال الدين وفقهاء العصر، كما جهد من أجل الفصل بين الدين والمؤسسات التي تدعي احتكاره، وبين التراث والهيئات التي تصور نفسها حارسة له قيّمة عليه.

خاض معارك فكرية نزيهة مع أهم رجالات عصره، كالعقاد وهيكل دون استعداء السلطات على الخصوم أو إثارة نقمة أصحاب الأمر والنهي، فكانت معاركه معهم تمثل شرف الكلمة المكافحة ورقي المواجهات المعرفية. حاول الدكتور طه حسين أن يحرر التراث من مفاهيم القداسة، بجعله إنساني الطابع قابلاً للخطأ والصواب، ودعا إلى مقاربة موضوعاته وقضاياه بمنهج علمي اجتماعي، كما تنبه إلى ضرورة المعالجة المنصفة لبعض الحركات التي ظُلمت في تاريخنا الرسمي كحركة الزنج والخوارج وغيرها.

من أبرز ما علمنا إياه الدكتور طه حسين وتركه لنا إرثاً لا يُنسى: نزعته العقلية وجعله محكمة العقل هي العليا في إصدار الأحكام، بعد مناقشتها وعرضها على منهج الشك العلمي، وتخليصها من المطلقات، والتعامل مع الأفكار والأحداث كظواهر أرضية تحكمها القوانين الناظمة للظواهر الاجتماعية والفكرية. مثّل انفتاح طه حسين على الثقافات الإنسانية في العالم مدرسة في تقبّل الآخرين والتعامل معهم دون إحساس بالنقص أو التعالي، فهو يدافع عن ثقافته العربية المتوسطية، كما يدافع عن الثقافات الأخرى، وبشكل خاص الغربي منها، بدءاً من اليونان إلى الثقافة الفرنسية المعاصرة له.. اتسم موقفه منها بالتحرر الفكري والتسامح الإنساني والابتعاد عن العواطف الدينية والقومية والحيادية والموضوعية..

لم يتنكر طه حسين لجهود سابقيه من المنورين العرب، كرفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ولطفي السيد وسلامة موسى، وإنما أسس على أهم ما قدموه للثقافة العربية والثقافة الإنسانية. فإذا كان العلم والباحثون قد تجاوزوا بعض إسهاماته العلمية والنظرية، فإنهم قد تجاوزوها بفضل ما قدمه فكره النيّر وعقله المضيء، بفتحه أمامهم أبواب المعرفة وطرائق البحث العلمي، وبنقلهم من العوالم المغلقة على عفونة الظلام ومقابر التخلف، إلى رحاب الحرية وعصور الأنوار.

من الصعب الحديث عن منجزات طه حسين في التاريخ والأدب والاجتماع والسياسة والترجمة، هذه الغزارة في الإنتاج والتنوع في الأبحاث والموضوعات، إنما يصدر عن وحدة في المنهج وموقف راسخ يعتمد العقل والنزاهة والموضوعية والتجرد. اقتنع طه حسين بأن طريق النهضة للعرب لا يمكن إلا أن يكون بالعلم، لذلك اعتبره ضرورة للناس كضرورة الهواء والماء، وعمل على إعادة النظر في المناهج التعليمية وتوحيدها لبناء ثقافة وطنية تجمع وتوحد التكوين الروحي لأبناء المجتمع الواحد، فكان كتابه الهام والحيوي والرائد مصدر هداية لكل من حاول الخوض في غمار المعارك الثقافية، كتاب (مستقبل الثقافة في مصر) من أهم الكتب التي تركها لنا طه حسين.

فهل مازلنا بحاجة إلى أفكار طه حسين ومواقفه وآرائه ومنهجيته بعد أكثر من أربعين عاماً على رحيله؟!

إن نظرة إلى ما يجري اليوم في وطننا وفي العالم العربي، يقودنا إلى استنتاج لا يحتاج إلى كبير عناء يقول: إن التفكير العلمي والعقلانية ونبذ الخرافة ومواجهة الأصولية والانفتاح والتعدد والمنهجية في معالجة المشاكل، هي من أهم الوسائل للخلاص من مستنقع الظلام والجهل والفقر والمرض والتخلف، والعلم هو الطريق إلى بناء وطن موحد سيد، وإنسان مثقف يجاري زمانه ويساهم في إغناء الحضارة  الإنسانية، ويكون وريثاً لما قدمه أسلافه من خدمة للثقافة الإنسانية.

ما أحوجنا اليوم إلى أمثال طه حسين أديباً ومفكراً وباحثاً ومنوّراً نهضوياً ومنفتحاً على الثقافة الإنسانية، بعيداً عن التعصب والعصبية، جريئاً في مواقفه، مخلصاً لفكره وثقافته.

العدد 1140 - 22/01/2025