«بـرومثيوس» لأندريه جيد: أول الرجال الأحرار

 أحب الشعراء جميعاً شخصية برومثيوس. أحبوا برومثيوس وراحوا يكتبون له وعنه القصائد والأغاني والمسرحيات، كما أن رسامين كثر أبدعوا في رسم لوحات تصوره على مختلف وجوهه.

 ونعرف أن (حامل النار) هذا وملهم الشعراء، كان في الآونة الأخيرة موضوع كتابين صدرا في مصر قبل سنوات ضمن إطار الاحتفال بذكرى لويس عوض الذي كان واحداً من كبار المهتمين العرب ببرومثيوس، مترجمين عن الإنكليزية (منشورات المجلس القومي للثقافة) ضمّا تلخيصاً وشرحاً وربطاً للعديد من النصوص والكتابات القديمة والحديثة التي تناولت هذه الشخصية الآتية، أصلاً من عالم الأساطير اليونانية.

والحال أن القرن العشرين في العالم الثقافي كله لم يشذ عن هذا الاهتمام إذ نجد العديد من كتّابه المسرحيين وشعرائه يخصّون برومثيوس بنصوص أهم ما في معظمها أنها حررت الشخصية من عبء الماضي الذي كان يكبله ضمن أطر وأفكار تقليدية، لتعطيه جزءاً من حرية لا تتناسب معه بالنسبة إلى البعد التاريخي فقط، بل تتناسب مع ما كان يجب أن تكون عليه صورة برومثيوس منذ القدم، أي، في كلمات أخرى، أن القرن العشرين – زمن الهزائم الكبيرة والأحلام التحررية المجهضة والانتصارات الملتبسة، زمن النار وانفلات الأدب، وزمن البحث المضني عن حرية لا تعرف كيف تجيء، وعن زوال لماضٍ لا يعرف كيف يمضي -، ما كان يمكنه أن يرضى لبرومثيوس بصورته القديمة. ومن هنا عُصرن (الرجل) و(أُنسن) ليصير جزءاً من ثقافة المشاكسة والتمرد وحقوق الإنسان بصورة عامة. وفي هذا الإطار قد يكون من المفيد أن نذكر هنا واحداً من أهم النصوص التي كتبت عن برومثيوس في القرن العشرين من منطلق ذهنية هذا القرن نفسها. ونعني بهذا، النص الذي كتبه الفرنسي أندريه جيد ونشره عام ،1899 كي يفتتح به ثقافة القرن العشرين وحداثته.

 عَنْون أندريه جيد نصه هذا بـ (برومثيوس إذ أسيء تقييده)، وهو في عرف النقاد ودارسي أعمال هذا الكاتب الكبير، كتب خلال الحقبة التي يقال عنها دائماً إنها كانت مناسبة تماماً لكتابة جيد أعماله الدراسية، وليس أعماله الإبداعية الخاصة. أي المرحلة التي شهدت ظهور كتب مثل (بيت شيبا)، (فيلوكنيت) و(إلحاح) وهي من بين أعمال جيد المبكرة الكبرى. بل أن ثمة بين النقاد من يقول إن (برومثيوس) جيد، هذا يعتبر من أنضج أعماله على الإطلاق، وعلى الأقل خلال النصف الأول من حياته ومساره الإبداعي. ويقول النقاد إن أهمية هذا العمل التي تلوح منذ النظرة الأولى، تكمن في أن جيد أوضح لنا منذ البداية أنه نقل البطل الأسطوري الإغريقي إلى عصرنا الحديث. وهكذا منذ الصفحة الأولى للنص نكتشف برومثيوس المعاصر لنا، جالساً إلى طاولة في مقهى وهو يستمع إلى ما يحكيه له شخصان هما كوكليس وداموكليس، علماً بأن ما يحكيه هذا يبدو غريباً في غاية الغرابة كما سنرى.

 منذ الحوارات الأولى ندرك أن هذين الشخصين إنما هما تابع وضحية رجل ثري وغامض لا يفوت خادم المقهى أن يؤكد لنا أنه يعرفه. وما هذا الشخص سوى صاحب مصرف يدعى زيوس، نكتشف أن من بين هواياته القيام بتصرفات غريبة ومجانية. وانطلاقاً من هذا التمهيد سرعان ما ستولد أمام أعيننا سلسلة من الأحداث المتتالية التي إن كانت تبدو لنا غير متوقعة بعض الشيء، سرعان ما تبدو – أيضاً – متسمة بالمنطق، وهي كلها أحداث لها علاقة بالثلاثة الجالسين إلى الطاولة: برومثيوس وداموكليس وكوكليس. وذات لحظة يبدو برومثيوس وكأنه عازم على إرهاب بقية الحضور إذ نراه يستدعي نسره الذي يأتي وسط خوف الآخرين وفضولهم ليبدأ من فوره في قضم كبد برومثيوس والتهامه. ونحن، معشر القراء، ندرك من فورنا أن هذا النسر إنما يرمز في حقيقة أمره إلى ضمير برومثيوس. فهو يغذيه ويتمتع بمشاهدة مسراته، من دون أن يدرك في الوقت نفسه أنه إذ يجعله دائماً وسيماً أكثر وأكثر، إنما يفنيه أيضاً ويهلكه بالتدريج. بل أكثر من هذا، يعتقد برومثيوس بأنه ناجح تماماً في النظرة التي دفع الآخرين إلى إلقائها على النسر، ومن هنا يقرر مواصلة مشواره المعرفي ومشوار الوعي لديه، جاعلاً من نفسه ناطقاً باسم هذا النوع الجديد من التصرف المنطلق من العقل. ولاحقاً إذ يدعى برومثيوس إلى إلقاء محاضرة حول نوازعه الجديدة، يؤكد في محاضرته ضرورة أن يكون لكل إنسان في هذا الوجود نسره. نسر يغذيه من ضروب ندمه ويكون قادراً حتى على أن يضحي بحياته من أجله.

 إذاً، نلاحظ في هذا السياق، مع دارسي هذا العمل الذي كتبه جيد وهو في الثلاثين من عمره، أن شخصية برومثيوس لم تعد لديه شخصية ذلك البطل الذي لفرط حبه للإنسان وإيمانه بانطلاقة هذا الإنسان عمد إلى سرقة النار الإلهية للحفاظ على لهيبها مستقلاً، بل صار له همّ في هذا الزمن يتجاوز إلى حد كبير غاية الكرامة الإنسانية. إنه الآن لم يعد محباً للإنسان، بل لمن يلتهم الإنسان. وبعد أن تتضح لنا هذه الصورة عن (بطل) أندريه جيد هذا، نجدنا أمام حوار شديد الغرابة يدور بين برومثيوس والمصرفي زيوس. ثم بعد ذلك يحدث أن يموت داموكليس بطريقة مأسوية إذ يأخذ على محمل الجدية الكلية ما كان قد قاله له برومثيوس بصدد النسر وتغذيته. وهنا، وكما كان وعد قبل ذلك، يلقي برومثيوس خطاباً تأبينياً بمناسبة مشاركته في جنازة صديقه الراحل. وهو خطاب يقول فيه، بعد أن يلحظ أمام الآخرين أنه بات أكثر صحة وسعادة من أي وقت كان، يقول إنه سيروي لهم حكاية مهمة. ثم بالفعل ينطلق في رواية قصة تبدو من الغرابة والطرافة إذ تثير ضحك الحاضرين وقد نسوا كما يبدو أنهم هنا لدفن إنسان وتأبينه. وهنا حين يسأل الحضور برومثيوس عما حلّ بنسره وأين هو الآن؟ يجيبهم بكل بساطة أنه قد قتله. ثم يدعو كوكليس جليس طاولته الآخر، كما يدعو خادم المقهى إلى مشاركته تذوق لحم النسر الذي بات الآن قيد الالتهام.

 وعلى هذا تنتهي الحكاية. وواضح هنا إننا أمام حكاية فلسفية لا أمام رواية أدبية. واضح أن أندريه جيد إنما أراد أن يسخر من كل أولئك الذين إذ يرغبون في أن يعيشوا حياة تتمسك، بكل صرامة، بالمبادئ والقواعد التي توافق المجتمع على أنها القواعد الأخلاقية اللازمة، ينتهي الأمر بأن يُثقلوا ضميرهم بكل ضروب الندم والحسرة، ما يجعلهم تاركين حياتهم كلها إذ تصبح حياة ميتة لا حيوية ولا إنسانية حقيقية فيها. ومن المؤكد أن أندريه جيد، يقدم لنا في هذه الحكاية – الأمثولة، ما يبدو أقرب إلى أن يكون فهماً فلسفياً للحياة الممتعة. ومع هذا علينا أن نلاحظ أن أندريه جيد لا يصل في آخر روايته إلى نكران أن النسر قد يكون ذا فائدة حقيقية في نهاية الأمر. في رأي جيد، من الصواب أن نعطي النسر ما يطالب به من (جسد) الإنسان، ولكن في المقابل، على هذا الإنسان أن يكون من القوة بحيث يعرف كيف ومتى يتوجب عليه أن يقتل النسر حتى يأكله بدلاً من جعل نفسه هو فريسة للنسر.

 وكل هذا يضعنا طبعاً أمام مبدأ كان – وبقي حتى النهاية – عزيزاً على فؤاد أندريه جيد (1869 – 1951) وهو مبدأ بسيط جداً ينادي بضرورة انعتاق الإنسان من كل القواعد التي تنحو إلى تكبيله. ومن أجل الوصول إلى هذه النتيجة، استعار جيد كما رأينا، أسطورة برومثيوس، ويحولها إلى أمثولة فلسفية أخلاقية من النمط الذي كان ذا فاعلية ورواج في القرن الثامن عشر. والحقيقة أن هذه الأمثولة نفسها نجدها في جوهرها ماثلة في كل أعمال جيد الكبيرة بما فيها (أقبية الفاتيكان) و(مزوّرو النقود) وحتى في النصوص التي كتبها عن رحلاته إلى الكونغو والتشاد والجزائر ومصر.

عن (الحياة)

العدد 1105 - 01/5/2024