أصداء المسرح في حلب

 بعد نجاح العرض المسرحي الإذاعي (بدون حركة) للمسرحيات الأربع القصار للدكتور وانيس باندك في الشهر الماضي، وبناء على طلب بعض المثقفين والمهتمين بالمسرح، أعيد عرض المسرحيات ذاتها في صالة تشرين التابعة لمديرية الثقافة في حلب يوم الثلاثاء الماضي في 17 الجاري، وأعاد الممثلون السادة سمير الطويل وياسين عدس والآنستان عبير وريم بيطار بإتقان وفنية عالية التقديم الصوتي للمسرحيات الأربع، لكن هذه المرة بمشاركة كاتبها ومخرجها د.باندك الذي شارك بأحد الأدوار.

يعدّ د.وانيس باندك من أهم المسرحيين السوريين، وهو من مواليد مدينة حلب، حائز على إجازة في التاريخ من جامعة دمشق، بدأ حياته الفنية والأدبية مخرجاً مسرحياً وكاتب قصة قصيرة، أخرج في الثمانينيات العديد من المسرحيات الهامة مثل (الدراويش يبحثون عن الحيقة) و(احتفال ليلي خاص بدرسدن) و(سكان الكهف)، كما نشر مجموعة قصصية بعنوان (الصيف المجنون) الصادرة عن دار الحصاد بدمشق، ثم سافر إلى أرمينيا لمتابعة تحصيله العلمي، فحصل على الماجستير في الفن المسرحي، ثم على الدكتوراه عن أطروحته (الأسطورة في المسرح السوري والأرمني) من جامعة يرفان عاصمة أرمينيا.

بعد عودته كتب العديد من المقالات في النقد المسرحي في المجلات السورية والعربية، وأخرج الكثير من المسرحيات بعضها من تأليفه مثل و(من سيقتل الأرملة) و(إذاعة أبو محمود) و(العائلة توت) و(إثنان فوق أرجوحة) و(مونودراما الزبال) و(أشباح المدينة) و(إطلاق النار من الخلف) و(هل تأتون قليلاً) و(السيد).. درّس في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، وعمل مديراً للمسرح الجوال والمسرح المدرسي في حلب.

تتنوع النصوص المسرحية التي قدمها في انتمائها للمدارس الفنية المسرحية المختلفة، ولعل الخط المشترك بينها جميعاً هو موضوع الاغتراب.

المسرحية الأولى بعنوان (مقعد بحري)، يتناول فيها موضوع الاغتراب على المستوى الوجودي، ويعبر النص عن حالة نفسية وجدانية أكثر منها أحداث واقعية، يتداخل فيها الحلم مع الواقعي تداخلاً سريالياً جميلاً، ويتحدث عن صداقة بين فتاة وشاب غريب جاء من الشمال يتنزهان على شاطئ بحر هادئ في الربيع عند مقعد بحري وحيد بدا كأنه تجسيد لتوقهما للحب والتواصل الإنساني هو بالنسبة للفتاة شبه حقيقي لكنه بالنسبة للشاب يتأرجح بين الحلم والواقع ويجسد حاجته الملحة إلى الحب وعدم قدرته على الإمساك به، وتنتهي المسرحية بافتراقهما في محطة القطار التي ترمز لإحدى محطات الحياة، إذ يتجه كل إلى مصيره، ويودع الشاب الفتاة كأنه يشكرها على هذا الحلم الجميل.

أما المسرحية الثانية (القفص) فهي مسرحية رمزية تتناول الاغتراب على المستوى الإنساني فيها شخصيتان، رجل وامرأة يجسدان الإنسان البدائي في مرحلة ما قبل الحضارة، وخلفهما عن بعد تبدو صورة مدينة في الأفق ترمز للمدنية، يحاول الرجل المحبوس في القفص إقناع المرأة التي تملك المفتاح بأن تحرره واعداً إياها بالحب، وعندما تقتنع وتطلق سراحه يزجها بالقفص بدلاً منه ويتحرر هو من العوائق التي تحول دونه والمدنية، وفي هذا رمز للقيود التي فرضت على المرأة في بداية عهد الإنسان بالحضارة.

المسرحية الثالثة (الحريق) مينودراما تتحدث عن القيود المفروضة على المرأة في المجتمع الشرقي، ومأساتها في منعها من التعليم وحبسها في البيت في انتظار العريس، ثم مأساتها بعد زواجها بالعمل خارج البيت وتحمل الأعباء داخله بعد عودتها.

النص الرابع (الحانة) يتحدث عن الاغتراب على المستوى الاجتماعي، عن رجلين يلتقيان في حانة أحدهما زبون والآخر هو نادل الحانة، ثم يتبادلان الأدوار بعد أن يكتشف النادل أن هذا الزبون الذي كان يعامله باحترام وتهيب ما هو إلا مجرد إنسان عادي مثله يعاني من الوحدة. نستطيع القول إن النصوص الأربعة التي لم يتجاوز أحدها العشرين دقيقة، نصوص جميلة استطاعت رغم قصرها أن تصور اغتراب الإنسان على أكثر من صعيد تصويراً رائعاً في نص مسرحي متماسك مشوق وعميق.

العدد 1102 - 03/4/2024