بعيداً في الغمام عميقاً في التراب

ألقيت في تأبين الرفيق الراحل باسم عبدو

من الصعب الحديث باقتضاب عن الصديق الصدوق باسم عبدو، لتعدد لمهام التي شغلها، فهو رجل سياسة (عضو في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري الموحد) وعضو في المكتب التنفيذي لاتحاد الكتاب العرب، ورئيس تحرير جريدة (النور)، التي ستصدر غداً دون توقيعه وقد حرص على كتابة زاويته فيها قبل رحيله بدقائق، إضافة إلى مهمته مدير تحرير لدورية (الأسبوع الأدبي) الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب، وقبل ذلك و بعده هو الأديب الروائي والقاص وكاتب المقال السياسي والاجتماعي والخاطرة الأدبية المميزة بروحها الساخرة والموجعة، كأنك كنت تسابق الزمن في تعدد المهام وغزارة الإنتاج وتنوعه، عن كل ذلك سيتحدث النقاد والأصدقاء الكثيرون.

أما أنا المخذول بفقدك، المفجوع برحيلك، فماذا أقول فيك، أيها الصديق الذي غادرنا دون إنذار أو توقع، لكنه الموت الذي يحوم فوق روؤسنا، الموت الذي اختارك، رجلاً شهماً عزيزاً على قلوبنا، لما تتجمّل به من خصال، وما تتحلى به من صفات ومزايا.

أنت الشيوعي المخلص في انتمائك، الواثق من غد قضيتك،المضحّي من أجل قيم حزبه وأفكاره ومبادئه. أنت المدرس المعطاء، يا من احترق بين المنابر والمحابر في رحلة لا تعرف الكلل ولا الملل في تجربة سخاء مفعمة بحب الطلبة إيماناً بحقهم في التعليم. أيها الوفي الأبي الخدوم الذي ماحنى رأسه يوماً لذل، قوي في الحق، ضعيف في الباطل، مدافع جسور عن المستضعفين والمضطهدين، وهب قلمه للكلمة الصادقة والمواقف الشجاعة.

أيها المحب المخلص لأصدقائه ومعارفه، المتواضع في غير تزلُف، الأبي في غير تبجّح، المعتد بنفسه وبقدراته دون استعلاء أو استخفاف بجهود الآخرين وقدراتهم. عرفتك منذ سبعينيات القرن الماضي طالباً في الجامعة، متمسكاً بالصدق سلاحاً، حريصاً على الاستقامة منهجاً في القول والفعل، وبقيت كذلك حتى لحظاتك الأخيرة، فقلما التقيت في حياتي صديقاً يخدم أصدقاءه ويشجعهم ويقدمهم على نفسه كما عرفت منك.

أيها الصبور على الشدائد، العنيد في مواجهة الخطأ، الجسور في غير تهوُر، كتوم للسر حافظ للأمانة، كريم الطبع نقي السجايا. أب حنون وزوج مثالي، بادلته شريكة حياته إخلاصاً بإخلاص وحبا بحب، ووفرت له كل سبل الراحة للقيام بمهامه المختلفة. ياصديقي باسم: اذهب بعيداً في الغمام وارحل عميقاً في التراب، ياصديق البنفسج…. أتذكر عندما كنا نتمازح: من منا سيرثي من؟! لماذا غدرت بي وتركتني وحيداً وأنت مودع سري، ومأوى شكواي من قسوة الحياة وندرة الأوفياء في زمن يحبطه رنين الذهب والفضَة.

تمهل قليلاً.. قليلاً، لا تغضب ولا تحتد يا رفيق الدرب الطويل والعمر القصير، واعذر إن توانيت في حمل الأمانة، فمن أين لكاهلي الواهن ولروحي القلقة، صمود روحك وثباتها، وقدرتك على الصبر والتضحية، ياصدق يوسف في صبر أيوب.

محبتك لوطنك وإخلاصك له، كان هاديك وبوصلتك في مواقفك، لم تضعف ثقتك بخروج بلادك من محنتها، ازددت تمسكاً بوطنك مدافعاً عنه حتى في حاضره المؤلم. إيماناً منك بقيامته الوشيكة…. كنت أتمنى يا أبا شفيع أن تكتحل عيناك بخلاصنا جميعاً من محنتنا الكبرى التي نذرت وجندت قلمك ومواقف متصدياً لمواجهة الإرهاب والتكفير والأصولية البغيضة، وفضحت الفساد والمفسدين.

آمنت بالحوار طريقاً للخلاص، وبالديمقراطية الحقة البعيدة عما لحقها من التشوهات والمتاجرة هدفاً نبيلاً ومشروعاً قابلاً للتحقيق بعد توفر شروطه الموضوعية والذاتية، وكانت الاشتراكية هدفك البعيد، خلاصاً من الاضطهاد، ومن أجل حقوق الناس في مجتمع يضمن لهم تلبية احتياجاتهم المادية والمعنوية كافة.

لا تقلق أيها الصديق، فحملة الأمانة أهل لها، والأوفياء كثر، ومهما اشتدت حلكة الليل لابد من فجر وشيك، فنم قرير العين هانيها، أيها الصديق الذي أنجز ما وعد ووفى ما التزم به، وأخلص لمن أحب، وقدّم دون تذمر أو ملل أو تردد. يا صديق الحبر والورق، سيشرق وهج نور الصفحات طارداً قتامة الحبر، لنسجل معاً فجراً جديداً لبلادنا سورية التي أحببت وللعالم الذي كنت مسكوناً بمشاكله وهمومه.

العدد 1105 - 01/5/2024