رجال وقبائل.. توافر جمالية الأدب على صدقية التاريخ

 (.. كان محقاً ذلك المُقدَّم الفرنسي الذي ألهمته البادية السورية تأليف كتاب عن قبيلتين متقاتلتين وسماه (قتال بين قبيلتين غنّامتين). وحدث أني ترعرعتُ في وطيس الحرب الباردة التي استمرت بين هاتين القبيلتين الكبيرتين، حتى بعد عقود من انتهائها عملياً، حين وضع الفرنسيون حدّاً لها عقب عدة مؤتمرات قبلية، وصلوا بعدها إلى ما يشبه تسوية رضي عنها الطرفان.

 حدث أنّي خرجت إلى هذه الحياة وأنا أنتمي إلى قبيلة صغيرة نسبياً هي عشيرة (الجميلة الوائلية التغلبية)، عشيرة تنتمي إلى قبيلة (قيس) الكبرى التي انقسمت وتوزعت حالياً بين العراق وتركيا، وقبيلتنا ما هي إلا عينة صغيرة من قيس الكبرى، حافظت على وجودها وجمعت نفسها ابتداء من مطلع القرن العشرين حين كان شيخها محمد الحسن فجمع شملها في منطقة جغرافية واحدة، وحدث أن كانت هذه المنطقة في إهاب جغرافيا قبيلة الحديديين) ص 7.

هذه العتبة النصية، جاءت على لسان صاحبة مرآة الصحراء الأديبة البدوية لينا هويان الحسن في (ما يشبه مقدمة) كتابها (رجال وقبائل)، الصادر مؤخراً عن وزارة الثقافة – الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق 2013.

 يقع الكتاب في مئة واثنتين وخمسين صفحة من القطع الكبير، تتوزع عناوينها ما بين (ما يشبه المقدمة) و(ما يشبه الخاتمة) على أكبر قبائل البادية السورية وأشهر شيوخها وعُقدائها.

ديمقراطية البدو..

تستهل المؤلفة كتابها بمقبوسات لشخصيات اهتمت بالقبائل وعالجت التشكيلات الاجتماعية الأولى من حيث أماكن توضّعها وطبائعها وأساليب عيشها، مثل (أرنستو ساباتو.. جواهر لال نهرو.. نيتشه.. الليدي آن بلنت.. أحمد وصفي زكريا و..أُوبنهايم).

يقول آرنستو: من لا يحب منطقته الجغرافية وبلدته وقريته وقطعته الأرضية الصغيرة وبيته، مهما كان ذلك البيت بسيطاً وفقيراً، يصعب عليه كثيراً أن يتعامل باحترام مع الآخرين..

وعن الديمقراطية لدى البداوة، تقول آن بلنت:

يعتبر النظام السياسي عند البدو بمنتهى الغرابة، لأنَّه يعطي مثالاً راقياً لأفضل أنواع الديمقراطية في العالم، وربما ديمقراطية البدو هي الوحيدة التي تتحقق فيها الحرية، والمساواة والأخوة.

 أمَّا أوبنهايم فيصف البدو في مؤلفه بالقول:

 يفخر البدو أشد الفخر بحريتهم، ويمتلكون شعوراً جامحاً باستقلاليتهم. ولا يوجد ما يعلو في نظرهم على الحياة في الصحراء، مصدر احتقارهم لأي إكراه وأي حكومة وضرائب وللخدمة العسكرية، ومنبع نفورهم من الاستقرار والعمل المنظم. والحق يقال إنَّ البدوي لا يتخلى إلاّ في الحالات القصوى عن بداوته.

تواطؤ.. واعتراف

تعود أهمية كتاب (رجال وقبائل) إلى اعتبارات عدّة، نذكر منها ثلاث نقاط:

الأولى: معالجته لتوثيق أصل شريحة عريقة تدخل في صلب النسيج السكاني العام لبلدنا سورية، ونموها وتطورها، ألا وهم البدو (سكان بادية الشام) لاسيما أن هذا الموضوع لم ينل حقه من العناية، ومعظم الذين عرضوا له كانوا مستشرقين لا تخلو كتاباتهم، على صدقية بعضها، من دوافع وأهداف أقل ما يقال فيها، إنَّها مغرضة وغير منصفة.

الثانية: هي اعتماد المؤلفة في غالب ما جاء في مؤلفها واستنتجته وذهبت إليه على مصادر ومراجع ومدونات مثبتة وموثقة.

النقطة الثالثة: كون الأديبة الروائية الصحافية هويان الحسن – ابنة (الجميلة الحديدية) إحدى أكبر قبائل بادية الشام – كاتبة مسكونة بروح التراث وريح البادية وفخر الهوية:  (بداية، لم أتكبد عناء نزع طباعي (الروائية)، حين يتيح لنا الأدب أو الأصح، يسوّغ لنا كتابة (تاريخ جميل) وفي الوقت نفسه يؤدي النص وظيفة الدال على الهوية. منطق الأدب، قد يسمح لي بتلخيص الماضي، لكن هذا في عمل قريب من حالة ”التوثيق” يكون الأمر مشبوهاً إذا لم أتوخّ الدقة والحذر والموضوعية. بصراحة)..

تتابع الكاتبة في شبه اعتراف بتواطئها الجميل:

(الأفضل تسمية مقدمتي (تواطؤ) حتى لا يُكتشف أمري وأُضْبَط متلبسة بالإعجاب سلفاً بمن يملؤون كتابي هذا بصيحات دشنت حروباً وغزوات..).

إلى أن تنتهي إلى القول: (من الغبن تجاهل التاريخ القبلي للبادية السورية، خاصة إذا عرفنا أنه خلال فترة الاحتلال العثماني، لم يستطع أي من سلاطينهم بسط سيطرته على أي بقعة من البادية).

توق.. ومغامرة

منذ لحظة التقائك (رجال وقبائل) تبدأ أصابع استشعارك بتلمّس طلائع انطباعاتٍ، لها بصمة المُسلَّمات كالتوق والتوثب والمغامرة، تداور مضارب استقبالك. لتستقر شيئاً فشيئاً في مضافة يقينك.

ثمة توثّب شبابي – يطل من حديّة نظرة الكاتبة ورمحية شعرها – لاجتراح اعترافات، لحقائق مركوزة في قرارة نفسها وقرار اهتمامها. يصلك عبر رزانة جُمَلها ونداوة أفكارها..

ثمة توق في لا وعي الكاتبة (وربما في وعيها) تستشفّه من الكتاب مثار عرضنا ومن سائر مؤلفاتها ومواقفها لأن تحقق وتفعّل في شخصها قولة المعري:

وإني وإن كنتُ الأخيرَ زمانهُ  لآتٍ بما لم تستطعه الأوائلُ

وثمة مغامرة تتبدّى في تصدي الأديبة – الباحثة الحسن تلميحاً وتصريحاً وقولاً وفعلاً، للمسكوت عنه في مجتمعنا، لأكثر من احتمال وسبب؛ ما يتجلى في كتابها هذا وحده وفي مجموعة كتبها (معشوقة الشمس..التروس القرمزية.. التفاحة السوداء.. بنات نعش وغيرها) كمشروع أدبي / ثقافي، أخذت على عاتقها مناجزته.

الصحارى لا تجامل

لقد فعلت البيئة، وبضمنها الطبيعة، فعلها بالإنسان مذ كانت وكان، حتى نسب إليها، فقيل (الإنسان ابن بيئته): فالمدني غير القروي.. والجبلي يختلف عن السهلي.. وابن البادية ليس كابن الحاضرة. لذا عرف البدوي – على عكس الحضري – بمتانة بنيته وحزم رأيه وقساوة طبعه.

 أمّا أن تغلب الفردية والاستقلالية والتفلّت على ما سواها من صفات البدوي، فلعل ذلك يعود أكثر ما يعود إلى كونه واجداً نفسه معظم الأوقات وحيداً في مواجهة رهبة الصحراء حرّاً وقرّاً ووحشةً ووحوشاً. ما يجعله أكثر اعتماداً على النفس، وتعويلاً على الرأي، وميلاً للاستقلالية، حتى عن قبيلته إذا ما رأى فيها زاجراً لحريته أو قامعاً لتطلعاته. ولنا من ظاهرة الصعاليك في تاريخنا العربي خير مثال على تفرّد البدوي وخروجه على القبيلة.

 من هنا على ما يبدو اختارت هويان الحسن عنوان كتابها (رجال وقبائل).. بل من ها هنا ربما قدّمت الرجال على القبائل. لاسيما أن الرجال الذين جاءت (الحسن) على ذكرهم أو عرضت لهم، قد فرضوا أنفسهم عليها.، ولكل منهم في فرض نفسه على الكاتبة أسبابه، التي لا تخفيها. فها هي ذي تصرح في بداية عرضها لسيرة أحدهم قائلة:

ليس عبثاً أني مغرمة باسم (طرْاد) ربما لهذا سميتُ بطل روايتي (سلطانات الرمل): (طراداً)!

يحق لي أن أحب هذا الاسم مثلما يحق لمجرد اسم علم يتألف من أربعة حروف أن يثير خيالات البوادي وأن يؤجج سراباتها.. متقفياً أثر خيط الدم الذي يسلك درباً عميقاً سحيقاً في الماضي..

يصرُّ قلمي أن يعرّفكم على أناس من هذا القبيل..

لتكون الأرواح حرة مثلما ينبغي لها أن تكون عظيمة بالمقابل ستكون مجروحة بالطموح..

 الأنفة لها ثوابها في الصحراء، الصحراء التي ستذكرك لأنك كنت شجاعاً شهماً نبيلاً، ستردد صداك..

فالصحارى لا تجامل.. ص72.

تضحيات ومآثر

أن تنتهي من قراءة (رجال وقبائل) نصّاً، فذلك لا يعني أنك انتهيت فعلاً. إذ سرعان ما تعود إليه، لتتمعن بلاغة صرخة ثائر هنا (بارودكم بخشوم ربعي نشوقي).. وتُكْبِر موقف شيخ عشيرة يردّ على رسول السلطات التركية بالقول: (قل لحكومتك إنني لن أسلم مستجيراً بي ولو لم يبق معي رجل واحد من وِلْد علي).. وتتملى حصافة قولة نائب هناك: (لن نقبل بتجزئة بلدنا سورية العربية الموحدة، حتى يقبل الطفل الرضيع بتجزئة ثدي أمه).

أن تقف خلال مطالعتك ”رجال وقبائل” على أخبار أمراء قبيلة الموالي مثل (مدلج بن ظاهر) الذي أوكل له السلطان العثماني (مراد الثالث) خفر طرق التجارة بين حلب وبغداد والطريق بين حلب ودمشق… وكان مدلج ذا مرتبة عالية تقدم له الدولة مقابل كل جندي أثناء الحرب 3000 أقجه. ص43 وأحمد بك أبو ريشة مَنْ وصفه الرحالة الفرنسي (تكسيرا) عام 1604 بالقول بأن الملك الحاكم في مدينة عانه، أمير عربي يدعى أحمد أبو ريشة، وأن سلطته تمتد إلى مناطق واسعة، وهو غير خاضع للسلطان التركي، وعلى جميع المارين في منطقته أن يدفعوا له الرسوم على البضائع التجارية. ص47.

وشيوخ قبيلة الحديديين كـصالح الجرخ وفيصل النواف، وشيوخ الحْسَنَة: فارس ومحمد وطراد من آل ملحم، ونوري الشعلان وفوّاز الشعلان من عرب (الروله).. ومشرف الدندل ورمضان الشلاش من عشيرة العقيدات. الأخير الذي شارك في الثورة السورية 1925:

 اندلعت الثورة السورية الكبرى في تموز 1925 بقيادة سلطان باشا الأطرش، وكان رمضان الشلاش مقيماً في شرق الأردن، فهب إلى جبل العرب لمقابلة سلطان باشا لمشاركة أبناء وطنه ضد الاستعمار الفرنسي ص93.

 لقد كان لرمضان شلاش قبل ذلك وبعده دور بارز في مقارعة الغرب الاستعماري في العالم. ما دعا رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل للقول:  عدونا في الشرق اثنان. أحدهما هو لينين في الشمال، والآخر هو رمضان شلاش في الجنوب. ص 86 الخ.. الخ.

 نقول إن تقف على أخبار كل من سلف ذكرهم من رجالات القبائل، فذلك لا يعني أنك قد اطلعت على جميع بطولات أهل البادية، فهناك آخرون لم تدّون سيرهم، عليك تسقّط حكاياتهم من ألسنة الرواة كالأمير (فياض) والأمير (الكنج أبو سفايف) وغيرهما.

 أن تضع يدك على الصفحة الأخيرة من ”رجال وقبائل” فلا يعني ذلك، أنك وضعت نفسك في صورة كل ما حفلت به رمال الصحراء وأحتَفته وحوش البادية من تضحيات البدو ومآثرهم أمراءً وشيوخاً وعقداء حرب وأفراداً.

 بيد أن ما يبلّ ريق عطشك للمعرفة ويواسي توقك للاستزادة، هو أن الكتاب نفسه قد أهداك حفنة عناوين لمصادر ومراجع على جانب من الأهمية. منها على سبيل المثال: (كتاب رحلة فتح الله الصايغ الحلبي، تحقيق يوسف شلحد.. الرقة كبرى المدن الفراتية لـ عبد القادر عياش.. الحقائق الناصعة لـ فريق مزهر الفرعون.. تاريخ معرة النعمان لـ محمد سليم الجندي.. الخيام السود لـ كارل رضوان.. تاريخ حلب لـ كامل الغزي.. في الصحراء الغربية لـ الويز موزيل.. الثورة السورية الكبرى لـ ميشيل بروفنس.. مذكرات سلطان باشا الأطرش وغيرها..).

بين اليوم والأمس

ليس دقيقاً أن التاريخ يعيد نفسه، لكنها الظروف تتشابه والأجيال تتوارث.. ولا تماماً المصادفات تتكفل بتكرار المواقف والأحداث، لكنها الأقدار تؤكد مواعظها.لا أقول هذا من باب التفلسف، وإنما تقديماً لخبر قرأته في جريدة البعث السورية أثناء مطالعتي كتاب الزميلة لينا المشار إليه. يقول الخبر المنشور يوم الجمعة 17/1/2014 وقد جاء تحت عنوان تجمّع العشائر في سورية: .. وأكد شيخ عشائر الحسنة قبيلة عنزة نواف عبد العزيز طراد الملحم أن تجمّع العشائر في سورية فوّض الوفد الذي شكلته الحكومة لحضور مؤتمر جنيف ،2 بتمثيل العشائر التي تضم فئات المجتمع السوري بجميع أطيافه. داعياً الدول المشاركة في المؤتمر إلى إصدار قرارات ملزمة للدول التي ترعى الإرهاب عبر حدودها وبالأموال أو الإعلام وفرض عقوبات بحقها إن لم تلتزم بتلك القرارات.

 وما إن انتهيت من قراءة كلام الشيخ نواف عبد العزيز طراد الملحم أعلاه ووصلني موقفه الوطني الإنساني والشجاع، حتى رأيتني أعود لا شعورياً إلى كتاب رجال وقبائل وما جاء فيه من خطاب جدّه طراد الملحم وموقفه الوطني الإنساني والشجاع أيضاً عندما:

 رفض العرض الفرنسي في إعلان حكومة للبدو مركزها تدمر. وكان رفضه قاطعاً أعلنه خلال المؤتمر الذي عقده المندوب السامي الفرنسي المسيو دوجوفنيل، مع رؤساء ومشايخ العشائر… كان الاجتماع في فندق زنوبيا في منتصف عام 1932م وكان فحوى خطاب المسيو دوجوفنيل ملغماً بإغراءات كبيرة يمكن أن يستفيد منها شيوخ العشائر من تشكيل تلك الدولة. شيخ الحسنة طراد الملحم رفض الفكرة من أساسها وحذا حذوه بقية الشيوخ. ص73.

كلمات ليست أخيرة

إلى ما وفّق به مؤلَّف ”لينا الحسن” من الاشتمال على معلومات تاريخية، يحاكي الحصول على بعضها أحياناً وفي بعض الأمكنة، التنقيب عن الآثار، رهافة حسٍّ وذكاء أنامل، فقد فاءت معلوماته إلى ظلال أدبية وارفة من لدن صاحبته، ما هيأ للكتاب أن يضم بين دفتيه مجد الكتابة من طرفيها: دقة النقل وصدقه وحرفيته (إذ تعمدت الكاتبة كما أظن ترك بعض الأخطاء طباعةً وإملاءً، كما جاءت في الأصل) هذا من طرف. وجمال أدبية التأليف، فيما جاءَ على لسان الكاتبة من عتبات وتعليقات وحواش. أغنت ما تعرفه الكاتبة سابقاً وما توصلت إليه حديثاً من معلومات، عضونتها في السياق، من طرف آخر.

 ما أعطى مؤلفها قيمة تاريخية وصيغة إبداعية، تجعل المتلقي المهتم يحارُ أين يضع الكتاب داخل مكتبته، في قسم التاريخ أم في قسم الأدب. غير أني لا أتوقع أبداً أن الشك سيخالجه، في وضعه في خانة الإبداع.

 أمّا أن يجد بعض القرّاء في اسم الكاتبة، بعض مفارقة ما بين لينا وهويان، فذلك مالا أرضى لصاحبة الاسم فيه يداً ولا ناقة ولا جمل ولا جواد. ولعله يرجع فيما يرجع إليه من أسباب إلى اختراق الشبكة العنكبوتية أواصر كرتنا الأرضية واستفحال التلاقح ما بين سكانها عرقياً ومعرفياً وثقافياً، حتى بات عالمنا المعاصر أشبه ما يكون بـ(كونتونة) كبيرة، يرطن قاطنوها بمختلف اللغات والأنباء والأسماء.

العدد 1104 - 24/4/2024