انكسرتُ وذابَ قلبي.. يا أبا شفيع..!

 بلا مقدمات طللية قديمة ومعاصرة، وبلا كلام إنشائي أنيق، مُزَخْرَف، رنّان، منقطع عن الفكر والإحساس النابض ودفقة الحياة.. وبلا ستار وحجاب وقناع وتورية، وبلا حرج وخشية من لائم وعزول ومخاتل، أقولُ لكَ يا أبا شفيع، وكينونتي في أوج اشتعالها ونشيجها الإنساني، وصدري مثقل بالقلق (السارتري)، أقول: بفَقْدكَ، يا أبا شفيع انكسرتُ وتفطّرتْ روحي، ومادت الأرض تحت أقدامي، وعيناي على الرغم منّي – طوراً تغرقان من البكا فأعشى، وحيناً تحسران فأبصرُ وليس الذي يجري من العين ماؤها/ ولكنها نفس تذوبُ وتقطرُ…

أجلْ، يا أبا شفيع، بفَقْدكَ ذاب قلبي وسال، وتعثّر مني اللسان. أصابعي ارتجفت ارتجاف الحفاة العراة، وعرّش الأسى والشجن في إهابي، أتأمّلُ سفركَ المعنّى إلى ما لا أعرف، ثم أطبق أجفاني وأردِّد بشفاهٍ ثكلى: (ما حيلتي، يا أبا شفيع، إذا كنتَ أنتَ جميلاً، وحظّي قليل…).

أبا شفيع..! أتذكرُ كيف كان وجهكَ السمح يضحك ويشرق بالفرح والمحبة، حين أشدّ على كتفيكَ وأبوسُ جبينكَ العالي؟ أتذكرُ كيف كان عمري الشقيّ يخضرُّ بقربكَ، وروحي الشريدة كيف كانت تزهرُ بين يديك،؟ وكيف كان كلّ شيء فيّ يستريح، ولو إلى حينٍ، بحضرتكَ الحانية، الرحيمة: هواجسي وقلقي، وجعي وخوفي، وحدتي ووحشتي، أحلامي المهجّرة، ضجري، سأمي، رأسي الذي يجتاحه ألم مستحيل من حين إلى آخر، شعوري القاهر والمرير بالاغتراب والفراغ والعزلة.. وعجزي الواضح، الفاضح عن التكيف مع واقع عربي خسيس وفاسد؟

ذاكرتي التي تئنّ وتهمي لم تنسَ شيئاً.. يا أبا شفيع..! ستبقى حيّة تفيض بالذكرى إلى أن أنتقل إلى جواركَ، ولا أظن ذلك إلا قريباً…

أبا شفيع.. أتراني تماديتُ في التعبير عن بعض ما هو كائن في العميق منّي، ومضيتُ فيه بلا قيود، وبلا رقابة..؟

أظنّ أنّ لغتي تمادتْ في وجدانيتها وحزنها وانكسارها النابع من انكساري إنسانياً، ولكني لا أظن أني تماديت في غير ذلك، فأنا يا أبا شفيع مخلوق من وطنيتكَ، وخلايانا النبيلة ولدتْ من رحمٍ إنساني كريم واحد، وكلانا مغرم ومسكون بالبراعم والورد اليانع والياسمين، وحبات المطر، ورائحة الأرض، ومفردات الوطن الذي يستوطن شغاف القلب والنهى، وكلّ منّا يرضى التقاط العشب وأكله على ألا يقوم بخدمة الملوك والأقوياء، وكلّ منّا لو عَلِمَ أنّ الماء يفسد شهامته، ومروءته، وكرامته، ونخوته، وعزّته ما شربه قطُّ. وكلانا، يا أبا شفيع.. أنتَ حتى اللحظات الأخيرة من عمركَ، وأنا إلى أن تغرب شمس حياتي وتلحق بكَ، قبض على وطنه وشرفه وكرامته وحمايته، وكانت قِبلته العدل والحرية والحق والجمال…

وماذا بعد يا أبا شفيع؟

أكاد أُجَنُّ.. أكادُ أُجَنُّ، قلْ لي: كيف استطعتَ أن تباغتني برحيلكَ الموشّح بالأرجوان وزرقة النار؟ وكيف استطعتَ أن تحملَ صليبكَ وإكليلَ شوككَ وتمضي إلى ملكوتكَ السماويّ، وتتركني وحدي مع صليبي وإكليل شوكي في جحيم أرضي، ملقى على قارعة هذه الدنيا المدمّاة، وهذا الزحام العقيم، وهذا الخراب المقيم..؟!

أبا شفيع.. قلْ لي:

لماذا طويتَ عمركَ.. كما كنتَ تطوي أوراقكَ وجرائدكَ وكتاباتكَ، وفارقتَ مَنْ يحبّكَ وتحبّه..؟ إلامَ تركته.. إلامَ؟ لبلاد متآكلة، وسجون متآخية، وأنظمة تمطر دماً وفقراً وقهراً واستعباداً؟ لهذا الحطام والركام والمدى الفاحم؟ لأوغاد وطواغيت.. ولهذا الطاعون الأسود(..؟).

أبا شفيع.. أكادُ أُجَنُّ…

لماذا، دونما إنذار.. ودونما أعذار.. خلعتَ الحياة وارتديتَ الردى وانصرفتَ عنّي، أنا صديقكَ ورفيقكَ وخليلكَ وحبيبكَ السيئ الطالع، وتركتني وحيداً مُحاصراً بوقتٍ مالح وأشباه رجال.. وبمَنْ هم خالو البال ومسطحو الرؤوس وينامون في الليل جيداً، بمثقفين ومفكرين ومنظرين ومفسّرين ومحلّلين.. متصهينين ومُعَمَّدين بالنفط والغاز والورق الأخضر والأقنعة، يكتبون ويقولون ويتحركون وفق البورصة، ومحاصراً برجعية عربية خَفافيشية تَرْهَبُ النور وضوء النهار، وبفكرٍ ميتافيزيقي، إقصائي، ظلامي، سكوني متواتر، وبثقافة تسلّطية سطحية، تسطيحية منافقة ومخاتلة ومعادية لثقافة الرسالة وللديمقراطية ومفرداتها، ومحاصراً بكل أشكال الفساد والاضطراب الأخلاقي والقيمي والذممي، وبكل مخرجات التردي الإداري والمالي والاقتصادي والسياسي… ومحاصراً حتى الاختناق بفقر مجتمعي مريع على الصعيدين المادي والإنساني (..؟) وبواقع قاتم في كل ناحية من نواحيه..؟

العدد 1105 - 01/5/2024