كفاح دؤوب من أجل عالم أكثر نقاء

 باسم.. يا صديقي الأغلى والأوفى في زمن يعزّ فيه الصديق والوفاء.. أنتَ لستَ ملاكاً ولا قدّيساً ولا نبيّاً… أنتَ إنسان حقيقي وكفى… لم تكن مدّاحاً ولا طبّالاً ولا مسبّحاً بحمد العروش والنعوش والمستبدين والمهيمنين، لم تكن في أيّ يوم مسطّح الرأس بلا صوت، ولا رأي، ولا قضية، ولا مبدأ… ولم تكن في أيّ وقت بلا لون، ولا طعم، ولا رائحة، ولا مذاق.. كانَ لكَ عطركَ وقيثارتكَ… وعالمك الإنساني الوارف الظلال، وكان ناموسك (تحيا الحياة فوق الأرض، لا تحت الطغاة.. تحيا الحياة). وكنتَ، دائماً وأبداً، تتمسّك بالثقافة الوطنية التنويرية.. بثقافة الرسالة التي تقف بثبات إلى جانب الشعب والوطن والحق والكرامة…

ألم تجمع، يا باسم، بين القلم النظيف والكفاح لتحرير وطنكَ المغتصب والمحتل، والوصول بشعبكَ ووطنكَ وأمتكَ إلى الحياة الحرّة الكريمة؟.

ألم تكافح على امتداد حياتكَ من أجل عالمٍ أكثر نقاء وجمالاً وإنسانية وعدلاً؟

ألم تقف بحزم وشجاعة وقناعة ضد التعصب والتطرف والإرهاب في مختلف الميادين وعلى جميع المستويات، وضد المذهبية والطائفية والفئوية والعشائرية؟

ألم تناهض تلك المخلوقات المتوحشة التي تعتاش على امتصاص الدماء.. وذلك الفكر الخارج من الكهوف والظلمات والمقابر الجماعية؟!

ألم تكتب وتعمل على فضح الفكر الظلامي الذي يعني، فيما يعني (تغييب العقل وجعله مغلقاً، وإيقاف التطور، وتشويه مفهوم الإنسانية والتقارب بين الشعوب.. وكَيْل الاتهامات للعلمانيين ونعتهم بالإلحاد، وأنهم ضد الدين والمتدينين، ولا يستحقون الحياة، فيجب سحقهم وقتلهم وطردهم من أوطانهم)؟…

***

قبل أن تدخل في الغياب وتغفو صباح يوم الأحد التراجيدي (29/11/ 2015) وعلى جبينكَ العالي سبعة وستون قنديلاً أخضرَ أضاءتْ سماء الكتابة والرواية والقصة والوطن والإنسان، وَرَفَلَتْ في عوالم الثقافة والسياسة والأدب والحب والوجد والحلم، وارتوت من خلجات القلب والروح والشجن والألم والمعاناة والمكابدة، قلتَ لي، فيما قلتَ، يا باسم: رغم الفضاء الواسع، تطل أحلامنا من كوى ضيّقة جداً، ثم قلت: ومع ذلك علينا وعلى المثقف ألا يستكين ويرضخ للسياسي الذي عندما يُحرج ويشعر بالفشل يستخدم أكثر الأسلحة قوة؛ أسلحة القمع والاعتقال وكمّ الأفواه والتضييق، وتقييد الحريات المختلفة، ويحاول جذب صفٍّ من صفوف المثقفين إلى جانبه، وجعلهم بوقاً له، يرددون شعاراته، وينفذون طلباته، ويصفقون له.. والمثقفون ليسوا على سوية واحدة، فهناك الإنتلجنسيا، النخبة التي تمارس الفوقية والنرجسية على الآخرين، وتقوم بقمع ما تسميه (الفئات الدونية) وهي بذلك لا تختلف عن السياسي.. وهي تستخدم نرجسيتها نهجاً، لا على سبيل المواقف العابرة أو الطارئة. والنتيجة، يا أبا الطيّب، على السياسي أن يكون مثقفاً، وعلى المثقف أن يكون سياسياً، كي تنضج المعادلة ويتوازن طرفاها مثل كفتي الميزان العادل في علاقة ديالكتيكية لا غبار عليها.. وكتبت، فيما كتبت، بتصرف، لقد قيل الكثير، ونشرت دراسات وأبحاث عن ضرورة التغيير الثقافي، لكن، وللأسف الشديد، لم تُجدِ هذه الدراسات ولم ينتج عنها سوى زيادة التوتر بين السياسة والثقافة، أو بين المثقف والسياسي. فالسياسي يحاول أن يكرّس الجهود الفردية والجمعية لاستمرار الهيمنة على المثقفين، والعمل تحت شعار مركزي بعنوان (تفوّق السياسة على الثقافة)، واعتماد السياسة المتسلّطة على الثقافة وإعطاء المثقفين المسكنات وتخديرهم بالشعارات وترويضهم من قبل مربّين سياسيين محنّكين وأصحاب خبرات تاريخية.

والسؤال المطروح اليوم: هل يشكل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين بداية عصر الفكر الظلامي؟ كيف انتشر الفكر الإرهابي في المنطقة، بل والعالم، ووجد له بيئة حاضنة (…) وكيف جرى العمل على تجميع عشرات ألوف الإرهابيين والتكفيريين من قارات العالم الخمس لتغيير الأنظمة السياسية وإسقاط الدول(..؟) مع أن التغيير – كما يرى أدونيس: (ليس تغيير السلطة، بل تغيير المجتمع وتغيير الأفكار)…

***

وبعد.. أعرفُ، يا باسم، وأدركُ أنّ لكل شيء نهاية.. وأنّ الدنيا تسترِدُّ أبداً ما تهبُ، فياليت جُودها كان بُخلاً على حدّ تعبير نشيد الشعر العربي المتنبي… ولكني افْتَقَدتكَ.. افْتَقَدتكَ، وفَقْد من نُحبّ غربة، والأبطال وحدهم – ربّما – هم الذين لا يخشون، ولا يخافون من الموت، وأنا لستُ واحداً من هؤلاء، وربّما (الأقوياء) فوق الحزن والأسى، وأنا أمام من أُحبّ ضعيف حتى التلاشي والفناء…

أبا شفيع.. وأنا في الهزيع الأخير من الليل، وروحي قد تضرّجتْ بندى المحبة.. وبالحزن الإنساني الجليل الذي يتبعني كظلي، لي عتب عليكَ.. عتب ممزوج بصرخات (جلجامش) المدوية، الموجعة، وهو يحمل بين يديه (انكيدو) الذي قضى نَحْبه، لأنكَ – يا أبا شفيع – فارقتني وتركتني في القفر وحدي، لأنكَ غادرتنا قبل الأوان، قبل أن يتبيّن، بجلاء وبلا شبهة، الخيط (النوراني) من الخيط الظلامي… وقبل أن يبتدئ  الزمن العربي والسوري الأبيض المنير، وينطفئ الزمن الهمجيّ المجلّل بالسواد والعتمة المُدْلَهِمّة

العدد 1105 - 01/5/2024