غرام الأدباء وفلسفة الغياب والحضور

 يقول غوستاف فلوبير في رائعته الخالدة مدام بوفاري:

(كانت (إيما) تهوى ليون وتنشد العزلة لتسعد بطيفه في طمأنينة، وكانت رؤية شخصه تعكر عليها متعة نجواها. كانت تهتز طرباً لوقع خطواته ثم يخمد الانفعال في حضوره، ولم يكن ليون يعلم أنها كانت، إذا غادرها يائساً، تنهض بعد انصرافه لترقبه في الطريق).

بقدرته الفذة على النفوذ إلى أعماق النفس الإنسانية وسبر أغوارها وتوصيف أدق انفعالاتها وخلجاتها، يسلط فلوبير الضوء على تجلٍّ خارج عن المألوف من تجليات الحب ويقارب هذه العاطفة من منظور غير مألوف، فكيف لنشوة الحب أن تتجلى في غياب المحبوب أكثر مما تتجلى في حضوره، فيما التراث الإنساني بشتى فنونه يعجّ بأنين الشكوى من فراق المحبوب وآهات الشوق للقياه؟ ثم ماذا عن مقولة (البعيد عن العين بعيد عن القلب) الشائعة في العديد من ثقافات العالم ولغاته ؟ فهل هو طرح واقعي يلامس حالة إنسانية شائعة، أم هو مجرد شطط خيالي أدبي اقتضته ضرورة الطرح الروائي زيادة في إبراز فرادة شخصية البطلة (مدام بوفاري) وإمعاناً في تظهير سمة القلق والتقلب الكامنة في أعماقها؟

سؤال من العسير أن يظفر صاحبه بإجابة شافية عنه ما لم يكن قد مرّ بتجربة شخصية تتيح له تذوق هذا الشعور العصيّ على الشرح، ومن ثم الحكم على مدى واقعية الطرح أو جنوحه نحو المبالغة والخيال.

أحد هؤلاء المجربين يوافق فلوبير الرأي والطرح موافقة تدعو إلى الدهشة رغم انتمائه إلى عصر بعيد كل البعد عن عصر فلوبير المتربع على إرث ثرّ من النضوج الحضاري والفكري المتراكم على مرّ القرون الفاصلة بينهما، إنه صوت الشاعر العربي جميل بن معمر العذري القضاعي، المعروف بجميل بثينة نسبة إلى محبوبته العذرية أيضاً التي استنفد جلّ قريحته الشعرية في التشبيب بها ووصف مدى هيامه بها، يقول جميل بثينة واضعاً إصبعه على جرح مدام بوفاري:

يموت الهوى مني إذا ما لقيتها          ويحيا إذا فارقتها فيعودُ

ثم يأتينا صوت آخر عابر للقارات والمحيطات، معلناً بأسلوبه الشهير في إطلاق الأحكام القاطعة انحيازه المطلق للفكرة مؤكداً الطابع العالمي لها:(إن الحب يتجلى في غياب المحبوب أكثر منه في حضوره).

هذا ما يقوله حرفياً الروائي البرازيلي باولو كويلو في روايته الشهيرة(إحدى عشرة دقيقة).

ثمة مستوى آخر من مستويات إشكالية الحضور والغياب نلمحه في نجوى شاعرين من العيار الثقيل حوّما حول الفكرة ذاتها، إن لم يكونا قد حطّا عليها ورشفا من رحيقها بالفعل، وإن لم يصرّحا بتفضيل غياب المحبوب على حضوره بل بجعلهما من حدّي المعادلة على السواء مناسبة للشكوى والتذمر، أولهما قيس بن الملوح حين يقول معاتباً شاكياً شدّة وجده بليلاه:

فوالله ما في القرب لي منك راحة        ولا البعد يسليني ولا أنا صابر

ويردد صدى الشكوى في القرن العشرين شاعر آخر أبى إلا أن يدلي بدلوه في القضية ذاتها، يقول سعيد عقل موافقاً زميله في الحرفة الرأي:

يا طيّب القلب يا قلبي تحمّلني          همّ الأحبة إن غابوا وإن حضروا

بغض النظر عن الترتيب التاريخي لهؤلاء الأعلام وما قد يترتب عليه من دلالات، وبعيداً عن الخوض في احتمالات الاستلهام أو التناصّ أو حتى الاقتباس، المستبعدة منطقياً في هذا المقام نظراً للتباعد المشار إليه أعلاه بين أصحابها من جهة، ولأسباب تتعلق بجزئية الفكرة وسياق طرحها من جهة أخرى، يبدو هذا التلاقي النادر لخمسة من الأعلام المتباعدين تاريخياً وجغرافياً وحضارياً على الفكرة ذاتها مؤشراً بالغ الدلالة على أصالتها وعمقها، والأهم من هذا وذاك.. واقعيتها، ومن الغبن والإجحاف النظر إليه على أنه محض طفرة عابرة غير ذات دلالة.

إنه الحب.. ذاك الموضوع الملهم للقسط الأعظم من نتاج الفن العالمي بأنواعه على مرّ العصور، والمعين الذي لا ينضب لأفكاره، وكل عاشق يدرك أنه في حضرة الحب لا معنى لأي حديث عن المنطق والقواعد واللوائح، وما نحن بصدده إن هو إلا طور آخر من غريب أطواره، فلعل التلذذ بغياب المحبوب هو مجرد حالة ذاتية طبيعية تنبع من الطباع الشخصية والنفسية للمحب، أو ربما هو صفة لازمة للحب الصامت المقموع الذي لا أفق له لسبب أو لآخر، أو هو سمة من سمات الحب غير المشروع (الآثم)، حيث يتحرر المحب في غياب حبيبه من شبهة الإثم ومن وطأة الشعور بالذنب، فتتفرغ روحه بكليتها للتمرغ في عبق الذكريات والتلذذ بترقب نشوة اللقاء بعيداً عن لذع سياط الضمير، أم أن الأمر برمته ما هو إلا مذهب من غريب مذاهب أبناء حرفة الأدب اختصوا به دون غيرهم، لما عرف عنهم من رهافة حس ورقة شعور تطبع كل ما يصدر عنهم بطابع فريد يودي بهم دوماً نحو أصعب المسالك صوب غاياتهم وأشدها وعورة، ولنا في قصة حب مي زيادة وجبران خليل جبران خير أمثولة على غرابة أطوار حب الأدباء وعلى الأخص فلسفتهم الخاصة بقضية الحضور والغياب.

افتراضات شتى يصعب البت بأفضلية لأحدها على الآخر خصوصاً مع افتراض تداخلها أحياناً، وأياً كان الأمر فما لا شك فيه أن هذه الحالة النادرة العصية على الشرح والتوصيف لا يمكن لها أن تكون ملازمة إلا لشكل وحيد من أشكال الحب.. الحب الروحي.. أو ما يسمى بالحب العذري أو الأفلاطوني النقي البعيد كل البعد عن نزوات الغريزة وشهوات الجسد، فاللذة في غياب المحبوب لا يمكن لها إلا أن تكون مبرأة عن دونية الجسد منقطعة كلياً إلى سمو الروح، كما أن المعاناة في حضرة المحبوب تنحو النحو ذاته أو تكاد. وبديهي أنه من المستبعد استبدادها بمن يذهب مذهب الحب الجسدي، وتلك درجة سامية من درجات الحب تستحضر إلى الذهن بعضاً من صور العشق الصوفي وتجلياته التي لا توافق بطبيعة الحال مزاج السواد الأعظم من أهل العشق و الغرام، وخاصة في زماننا هذا.

إن كان من نتيجة يمكن استخلاصها من تجارب أصحابنا وقصصهم الشيقة الشائكة فهي حكمة قد تصلح لكل زمان ومكان:

أيها الباحثون عن الحب.. إياكم وغرام الأدباء، فلهؤلاء فيما يعشقون مذاهب!!

العدد 1105 - 01/5/2024