سجون وبروباغندا وفـاشية

 قيل لنا يوماً إنه كان هناك (خمسون مليون إنسان في معسكرات الاعتقال في الاتحاد السوفييتي)، وكان هناك عموماً من يصدق هذا الزعم السخيف بين الناس الذين يؤكدون أنهم خلافاً لآخرين لم (يؤخذوا) بالبروباغندا الشيوعية، ولكنهم بلا شك أُخذوا بالبروباغندا المعادية للشيوعية، مع أنهم ينكرون ذلك بشدة!..الحرب الباردة لم تنته بالطبع أبداً، وانبعاثها الحالي مدعوم بالاستثمار الضخم للتمويل الإمبريالي وتطبيق جيش من الخريجين الشباب البارعين لمهمة خوضها.

تحت شعار محاربة (الشيوعية الملحدة) التي تهدد (الحرية الأمريكية) يجري في الولايات المتحدة تجنيد عدد مدهش من هؤلاء مباشرة، من كليات أمريكية، للعمل على استخدام وتعزيز كل وسيلة دعائية توصلت إليها الإمبريالية خلال مئة عام تقريباً منذ ثورة أكتوبر 1917.

الحاجة الملحة بالنسبة للرأسمالية كانت ضرورة تشويه سمعة هذا النظام البديل اللارأسمالي والسخرية منه والتنديد به. وعلى الرغم من نجاح الثورة المضادة في أوربا الشرقية والاتحاد السوفييتي في نهاية ثمانينيات القرن العشرين، مازال التأييد للبديل الاشتراكي مستمراً وحيّاً في عدد من البلدان حول العالم، وهو عدد كبير من منظور الرأسمالية، حيث يشكل الشيوعيون جزءاً من الحكومة أو هم الحزب الحاكم، وليس مفاجئاً أن الحرب الأيديولوجية الإمبريالية ضد الاشتراكية مستمرة أيضاً.

يمكن بسهولة تعيين بعض خطوط الهجوم الدعائي المتجدد: (مساواة الاشتراكية بالفاشية، ووصف استئصال الطابور الخامس النازي في الاتحاد السوفييتي في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين بتطهير ستالين لنقاده، والتأكيد المتكرر كثيراً أن (الاشتراكية فاشلة) مرفقاً بطمس إنجازاتها والزعم بأنها (دولة بوليسية).

كانت هناك أسباب عديدة لنجاح الثورة المضادة الغورباتشوفية في الاتحاد السوفييتي، ولكن ثمة عامل أسهم في ذلك بلا شك هو أن الشعب السوفييتي لم تكن لديه تجربة مباشرة مع الرأسمالية منذ جيلين على الأقل، وأُقنع بسهولة أن قبول الديمقراطية البورجوازية سيوفر تماماً ما وعدت به: الاحتفاظ بجميع الفوائد التي تمتع بها المواطنون في ظل الاشتراكية، إضافة إلى سلع استهلاكية وحرية السفر عندما يريدون.. لم يرغبوا إسقاط الاتحاد السوفييتي أو نهاية الاشتراكية، ولكن هذا ما حصلوا عليه.

واليوم بعد تجربة (فوائد) الرأسمالية: التضخم والبطالة والأسعار المرتفعة وتردي مستويات المعيشة وتزايد التهديدات العسكرية من جانب منظمة حلف شمال الأطلسي عند حدودهم_ ليس مفاجئاً أن يلتفت الكثيرون بأفكارهم، بحنين، إلى ما فقدوه.

ذكرت مجلة (نيوزويك) الأمريكية التي تصدرها صحيفة (واشنطن بوست) بفزع في العام الماضي: (في 9 أيار خلال احتفال روسيا بالذكرى السبعين للانتصار في الحرب العالمية الثانية، بدا ستالين حاضراً في كل مكان: حمل المحاربون القدماء صوره عبر الساحة الحمراء، في حين عرض التلفزيون الحكومي أفلاماً وثائقية تحيي إنجازاته كقائد أعلى للجيش الأحمر. ومن بين الهدايا التذكارية المعروضة للبيع في موسكو توجد قمصان وأكواب وصحون زخرفية تحمل صورة ستالين).

(ليست صور ستالين فقط التي تكتسب شعبية، فقد سجلت لغة الإرهاب الستاليني عودة مدهشة إلى الحياة الروسية). ماذا تعني (نيوزويك) بذلك؟ تخبرنا بسرعة (وصف بوتين نقّاد الكرملين بـ(خونة الوطن) و(طابور خامس)! إنه الشيطان بذاته.

ولكن (نيوزويك) لديها المزيد: (بعد ذلك هناك محاكمات استعراضية متزايدة.. ففي آب الماضي حكم على المخرج السينمائي الأوكراني أليغ سبتسوف بالسجن عشرين عاماً بتهمة الإرهاب، التي يُنظر إليها على نحو واسع (على الأقل في نيوزويك)، كانتقام لمشاركته في احتجاجات ضد استيلاء روسيا على القرم).

ماذا يعني (استيلاء روسيا على القرم)؟ لقد صوّت سكان القرم بأكثرية ساحقة لصالح الانضمام ثانية إلى روسيا، بعد استيلاء الفاشيين المدعومين أمريكياً على السلطة في أوكرانيا. إن تقرير المصير في استفتاء هو الآن بوضوح (إرهاب ستاليني). يقول ذلك مديرو الحملة الروسية لحقوق الإنسان المحبوبون في الغرب، مثل سيرغي بارخومينكو (روسيا تتجه مرة أخرى نحو الإرهاب الشمولي).

توجد لدى مديري حملة حقوق الإنسان في الغرب أجندة معادية للسوفييت ومعادية للشيوعية، ويظهر ذلك في حقيقة أنهم لا يهاجمون أبداً الإساءة الهائلة لحقوق الإنسان المعروفة بالنظام الجزائي الأمريكي. ففي ظل ذلك النظام يذبل عدد من الناس أكبر بكثير مما في روسيا. توجد نسبة عالية بشكل مخزٍ من الشباب السود والأمريكيين الفقراء الآخرين مسجونين وفق نظام عقوبات يتصورهم محتجزين في سجون يديرها القطاع الخاص، مرغمين فعلاً على العمل عبيداً مسترقّين لشركات تشتكي إذا كان عدد الناس المرسلين إلى السجن- قوة العمل التي يملكونها- دون المستوى الذي يراه مديرو السجن مقبولاً.

كان ذلك نظام معسكرات الاعتقال النازية التي مثلت عمل الرق من أجل أرباح الشركات الكبرى.. لا غرابة أن البروباغندا الأمريكية تحاول جاهدة إقناع الناس أن روسيا دولة (شمولية)، لأنه ليس عليك النظر طويلاً جداً إلى الولايات المتحدة الأمريكية كي ترى دليلاً على الفاشية الزاحفة والمتنامية.

العدد 1105 - 01/5/2024